إنجاز: د الغزيوي أبو علي
د بن المداني ليلة
لقد كان موضوعنا هو التفكير حول الخطاب من خلال الوصف الحفري، فإن الأهمية القصوى التي ستليها عناية كبيرة هي تتبع هذا الخطاب من خلال مراحله التي يعالج عن طريقها لمعرفة هذا الخطاب بحي اتخذه فوكو كموضوع له تمحور كل أبحاثه الفلسفية والتي كان الجانب الأكبر منها يعالج المنهج لهذا الخطاب الذي يناقض تاريخ الأفكار في ثوبه التقليدي والذي ننعته بالوصف، وانطلاقا من هذا فقد جعلنا نندرج عبر تقسيم يكون كالتالي، فقد جعلناه مدخلا من المنظور الفلسفي الذي سار فيه فوكو لإقامة فوارق لما يدعو إليه وبين تاريخ الخطاب الذي كان سائدا قبله والذي اتخذه الخطاب كنزعة مذهبية توجه أعماله في التأريخ للمعارف والعلوم، وكل ما يستحق أن يكون ذاكرة تاريخية وكوثيقة تستمد ونوظف لبناء خطاب ومعارف جديدة أو تكون كأثر له سلطة على إنتاج الخطاب وتوليد أشكال أخرى من المعارف التي تأخذ طابع عصر ثقافي معين أو حسب مفهوم فوكو الذي نعت به كل فترة تاريخية تكون لها قطيعة أو شكل يخالف ويغاير الفترة السابقة كقواعد بناء معرفة وعلوم، لذا وجد فوكو أن اكتشاف الخطاب عند فوكو قد أحدث فجوة بين مناهج التاريخ التقليدي وبين المنهج الذي استحدثه فوكو في جغرافية الخطاب المعرفي، لأنه يرى أن هذا الخطاب لا يكون بريئا، بل محملا بأسئلة مقصية ومكبوتة، فالخطاب هو بمثابة نسق فكري يوحد بين الفكر والواقع ويرفض كل تجربة تتأسس على مبادئ النقد الجذري والثقافي، فالخطاب هو خطاب مؤدلج وبراني لا يتلاءم إلا مع خصوصية الذات المركزية الغربية، لأن ميدان التأريخ المعرفي هو ميدان غير مقيد وغير مسيج، بل يظل خطابا مفتوحا وقابلا أن يستوعب الانتقال الذي عينه فوكو من ميدان معرفي إلى داخل الحقل المعرفي فقد ارتأينا أن نعيد تخصيص الكامل التعريف بهذا الخطاب الجديد والمؤدلج وتبيان المميزات التي تميزه عن باقي المناهج الخطابية الكلاسيكية لتوضيح بعض المفاهيم التي يعتمدها فوكو في تحليله للميدان الذي نشأ من أجله، ففوكو لا يقدم لنا الأفكار السلبية، بل هدفه هو بناء رؤيا نقدية، لأن المنهج النقدي يلزمنا أن نبين موضوعه والشيء المادي الذي يبنيه ويلاحقه من أجل تحليله وإظهار غوامضه التحتية ومكونات الشيء أصبحنا نراها مختلفة في باقي الفناء كمكونات التأويلية، وقد جعل فوكو هذا الخطاب المدروس هو الخطاب الحفري بكل عناصره التي تؤسسه وتجعل منه أفقا ماديا، وقد أفرغ فوكو هذا الخطاب الكلاسيكي من العناصر لتقيمه كموضوع من أجل إعطاء لهذا الخطاب دعامة جديدة يقوم عليها وهي التأويلية التشكيلة العبارية لأن الكفاية باعتبارها الاكتشاف للخطاب الجديد الذي يرتبط بكل المفاهيم التي يعتمدها الوصف الحفري، فالرؤيا النقدية لهذا المركز هو بمثابة قراءة مضاعفة لمعرفة هذه الذات المتمركزة حول الأنا لمعرفة نوع العلاقة التي توجد بين السلطة والمعرفة وعلى الخصوص محاولة تخليص العلوم الإنسانية من أجهزة السلطة كما فعلت العلوم الطبيعية، ففوكو هدفه ليس إعادة النموذج المعرفي كنموذج مؤتلف، بل مختلف لأن كل عصر كما يرى يرتبط ببعد إبسيمي وهذا التنوع دفعه إلى تأكيد على هذا الانفصال وعدم وجود علوم إنسانية حديثة، وعلى هذا الأساس يكون الخطاب الذي اتبعناه في تحديد الخطاب في مراحله من خلال إظهار الساحة الفكرية التي عاصرها فوكو وحاورها بانتقاده لها، وهذا كان هو المدخل المنهجي عند فوكو وهذه هي الخطوة المنهجية التي يتخذه المنهج الحفري كموضوع للدراسة كإشكالية فكرية ومعرفية، لذا يتوخى تلخيص الكلام الإنساني والسير بها نحو بناء الذات والرغبة الإنسانية، فالوعي التاريخي يمثل أزمة معرفية قائمة بذاتها، لأن فوكو أبرز بشكل جوهري أن الوعي النقدي هو إدراك تاريخي قائم بذاته، لأن الخطاب المعرفي يحاول أن يتجاوز الصيرورة التاريخية من خلال نزعة لا إنسانية لا ترقي إلى الميتافينومينولوجيا، ففوكو لا يعترف بالمركز المستعمر، بل يريد أن يستقرئ الهامش كمركز ممكن من أجل التصالح مع الذات، ما دام الهامش يحضر فينا إيجابيا لكي يدمر فينا المركز دون فقدان شخصيتنا المعرفية والتاريخية، فالهامش – الخطاب – منذور دائما لإعادة الكتابة فهو في حال صنع دائم لهذا المهمش في حالة تجاوز مستمر، إذن يحاول ميشيل فوكو أن الخطاب يحتاج إلى الحفر في طبقاته لمعرفة تاريخ الأفكار المكررة من أجل تحليل التناقض لمعرفة التحول والتطور والتغير الذي يلحق هذا الخطاب، فهذا الخطاب باعتباره ممارسة تحكمها قواعد ينبغي الحفر في تربتها كبعد تأويلي وتحليلي كما يقول فوكو في كتابه حفريات المعرفة ص134، فالتحليل لهذا الخطاب لا يجعل منه عبارة عن ظاهرة برانية وسطحية، ولا يرتبط بما سبقه من الخطابات وما لاحقه دون فقدان الماهية، بل الهدف منه هو معرفة القواعد التي تخضع لها، تلك الخطابات التي لا ينبغي إرجاعه إلى الماضي، ففوكو لا يرتبط الخطاب بالبعد الأنتربولوجي ولا الاجتماعي ولا النفسي بل تحديد الممارسة التي تحكم الإنتاج الفردي وتوجهه، رغم أن الذات بوجودها ولخصوصيتها أن البعد الحضري لا يعترف بها، فحفريات المعرفة لا تقف عند مألوفية الخطاب، لأن العبارات ليست مجموعة لا حياة فيها تعرف لحظات الخصب، بل هي ميدان منتج من الأول إلى آخره كما يرى في حفريات المعرفة ص139، لذا يرى بأن العبارة لا تكون مستقلة عن موضوعها ونمط تشكلها، بل تنطق باسم باقي العبارات ص140 (نفس المرجع)، فرغم وجود التناقض في مستوى القضايا دون أن تمس في شيء النظام العباراتي الذي يسمح لنا بمعرفتها وبإمكانها لأنها تعتبر من الناحية الحفرية مشتقة كما يرى فوكو، لذا يرى أن التشكيل الخطابي يتعدى حدود التناقض سواء على المستوى الخارجي أو المستوى البنائي الوظيفي، لكن الوصف الحضري لهذا الخطاب المتناقض يحمل بدايته ونهايته على المستوى التحليلي، لأن الحديث عن مختلف المستويات الخطابية السياسية العربية هي بمثابة ظاهرة معقدة تتوزعها كل التشكيلات التأويلية والوظيفية، لأن عدم تطابق بين الخطابات السياسية هو بمثابة تباعد في الصيغ العباراتية وتنافر في المفاهيم وإقصاء الخياؤات الهامشية، لأن السلطة تظل هي المركز في كل شيء تسعى في الصيغ العباراتية لأنها تتنافر بين المفاهيم والخيارات الإيديولوجية، فالخطاب المؤسساتي هو عبارة عن مركز وقاعدة ممارستية دون قطيعة للنظام العام لتشكيلة خطابية، (حفريات المعرفة ص160)، ففوكو يرى أن هذا الخطاب ينبغي أن يتجاوز الذات وتقويضها وأيضا ذلك الأثر والمؤلف وأنواع الموضوعات والتشكيلات الخطابية باعتبارها حقيقة يمكن الانطلاق منها باعتبارها بناء قاعديا للخطاب المعرفي الكلاسيكي، فالخطاب السياسي العربي هو خطاب مؤدلج ورومانسي لا يعير الاهتمام لما هو اجتماعي ولا تنموي ولا اقتصادي، فهم المخاطب هو عدم تجاوز النظام المؤسساتي باعتباره عبارة نادرة كما يقول في كتابه “المعرفة والسلطة” ص8، لأن ما يهم السياسية هو انتظام العبارة دون تعارض بين ما هو أصيل مؤسساتي وما هو ممكن طرحه كبديل يذكر، فالهدف هو المحافظة على الكوجيطي والذات المتعالية التي تملك شروطها وإمكانياتها حيث تعكس روح السلطة دون قطيعة معها، فالخطاب السياسي العربي لا يطرح أسئلة على السلطة، ولا يبدع لغة المواجهة كتشريع وتفصيل وتنفيذ، ما دامت السلطة تحاول توظيفه كقناع وكمعادل موضوعي دون تهميشه وهذا التصور الأرثودوكسي جعله يندرج في البراديجم السلطة دون أن يضع أي فكرة خارج نظام المفهوم النموذجي، بل يستخدم كأداة مجرد من أي اختيار موقفي، ويؤكد فوكو أن أية عبارة لا يكون وجودها خفيا ما دامت تتعلق بما يقال فعلا، أما الثغرات والنقائص التي تبدو عليها، لا ينبغي اعتبارها دلالات متوارية، فهي مجرد مؤشر إلى حضورها فضاء الخطاب حيث يعد صنفا تنتمي إليه، غير أنه إذا كان يصعب الوقوف عند تلك الكتابة العربية والتي لا تتعدى
مستوى ما قيل، فلأن العبارة المدونة لا تدرك مباشرة، فهي ملتبسة دوما بالقضايا، مما يتطلب كشف دعامتها التحليلية بل تشكيلها وابتكارها، ينبغي إذن خلق الفضاء الثلاثي لتلك الدعامة وإبرازها، ويمكن للخطاب أن يصبح مجرد كتابة لما قيل إلى ضمن كثرة يلزم إنشاؤها.
من هنا نستشف أن أصالة فوكو تكمن في الكيفية التي حدد بها المتون والمجاميع الخطابية فهو لا يحددها تبعا لتواتراث أو ثوابت لسانية أو عن طريق الصفات الشخصية لأولئك الذين يتكلمون أو يكتبون فالمجاميع والمتكون عنه فوكو هي خطابات بلا مرجع (المعرفة والسلطة ص23).
فالخطاب المكون من العبارات ومن ألفاظ أو جمل أو قضايا تكون عبارات قائمة الذات ومتميزة عن هذه الأنواع الأخرى، ذلك أن العبارات ليست ألفاظا أو جملا ولا حتى قضايا بل هي تشكيلات لا ترى إلا ضمن مجموعها وعندما لا تؤول تصاب ذوات الجملة وموضوعاتها ومدلولات اللفظ تغير في طبيعتها يجعلها تأخذ مكانا داخل الما “يقال” وداخل خطاب مجهول الهوية، فتتوزع في اللغة، وأن اللغة لا تنتظم في مجموع إلا لتصبح وسطا تتوزع فيه العبارات ومن خلال هذا الطرح الفوكوري نرى أن هذا الخطاب ينبغي أن نعيد فيه الحياة والدفء إلى وجودنا الثقافي والسياسي بقصد إرساء شروط التنافسية المنتجة فيه، وتقوية نسيجه التواصلي الدافع، إنها سبل كثيرة ومتنوعة، لكنها في الحقيقة تهدف إلى سبيل واحد هو أن تنتمي إلى روح ما بعد الحداثة المتجددة بما قدمته وأنجزته من تقدم في تكسير مركزية الغرب المهيمن وبالتالي علينا أن نتعلم أن السياسية ليست واحدة، بل كل بلد أو جماعة معينة لها سياستها لاعبار عليها، لكن السياسة العربية منقسمة إلى قسمين قسم شرقي روسي صيني، وقسم غربي أمريكي أوروبي، لذا لا يحاول السياسي العربي أن يبدع أو يحول هذا الخطاب إلى ممارسة للمقاومة وهذا ما نراه في حرب فلسطين، لذا يبقى هذا الخطاب العربي في مدارج الدوغمائيات اللاجدلية ومعارجها المعتمة وكذا أمسى السياسي في خطاباته غير موضوعي ولا عقلاني ولوغماشية أي ذات جعجعة ولا صحين كما يرى بنسالم حميش في كتابه (نقد ثقافة الحجر وبداوة الفكر).
إن هذه العلاقة الداخلية بين السلطة والخطاب هي التي ستؤلف موضوع السياسة، فينبغي أن ندرك جيدا المستوى الذي يتجه نحوه تحليل، لأنه لم يمكن مفهوما دائما (مسيرة فلسفية ص106)، ويسعى فوكو أيضا إلى عزل العلاقات القائمة بين السياسي والسلطة والمعرفة، وهذا ما أكده في كتابه (الحقيقة والسلطة) حي طرح المسألة بعبارات على نحو التالي: “إذا طرحنا على علم كالفيزياء النظرية أو الكيمياء العضوية مسألة علاقاته مع بنى المجتمع السياسي والاقتصادي، ألا تكون قد طرحنا مسألة الخطاب أكثر التعقيد؟ ألا نكون قد رفعنا بإفراط سقف التفسير الممكن؟ فإذا أخذنا علما كالتحليل النفسي للخطاب ألا تصبح المسألة ليس حلا لأن البعد الإبستمولوجي للتحليل النفسي غير فاعل، لأن الممارسة التحلينفسية مرتبطة بمجموعة كاملة من المؤسسات السياسية والتنظيمات الاجتماعية؟ لذا يمكننا أن نفهم بشكل أكثر تأكيدا تشابك السلطة والمعرفة.
لا يستبعد فوكو وجود علاقات بين الفيزياء النظرية والمجتمع، لكنه يشير إلى أننا لن نتوصل بالتأكيد إلى فهمها ولا إلى التقاطها في صلة مباشرة، إذا اهتممنا بمفاهيم الفيزياء وقوانينها كما هي وليس فقط بالاستخدامات التكنولوجية لهذا الميدان العلمي، لقد ركز فوكو اهتمامه بصورة شبه حصرية على تلك العلوم المشترك فيها التي هي العلوم الاجتماعية.
ونجد فوكو يتفق مع نيتشه وهيدغر على القول أن الممارسات الثقافية في أي عمر كان، تحدد نوع الموضوع الذي من شأنه أن يثير اهتمام العلم.
لكنه يسعى إلى إدخال اختلاف مهم بين أنواع الممارسات الثقافية وأنواع الموضوعات التي تحررها كل ممارسة فعلية على المستوى الفكري والسياسي والاجتماعي، لأن السياسة هي فن الخداع، إذا جارينا فوكو واستبعدنا الممارسات العادية موضوعاتها في ميدان البحث الذي نحن بصدده، حيث تبقى البعد السياسي من جهة الممارسات والموضوعات الثابتة نسبيا لتلك التي يسميها (كوهن) “العلوم السوية” والتي يعرفها فوكو بأنها تلك التي انتسبت صفة العلمية، كما يقول في كتابه مسيرة فلسفية ص107، ومن جهة أخرى تلك التي لا تتمتع بهذه الصفة، حيث يضم الفئة الثانية فيما تضم بعض العلوم كعلم الأرصاد الجوية والميادين المشكوك فيها كالعلوم الإنسانية، وحسب تشخيص فوكو، فإن هذه الأخيرة لا تتقدم حتى نحو الحالة السوية، لقد رأينا في (الكلمات والأشياء) أن العلوم الإنسانية التي تظل أسيرة المزدوجات المختلفة لا يمكن أن تصبح بنظر فوكو علوما سوية، مما لا يستبعد إمكانية أن تصبح دراسة أخرى للإنسان، مختلفة المنظور، علما سويا، مع أن هذا الأمر بعيد الاحتمال للغاية إذا أخذنا في الاعتبار تحليلات فوكو الحديثة حول العلاقات التي تقيمها العلوم الإنسانية مع السلطة.
بما أن الخطاب قد نشأ بالنسبة إلى فوكو عن ممارسات ومؤسسات اجتماعية خاصة، فإننا نود أن نعرف ما إذا كان بوسع العلوم الإنسانية هي أيضا أن تتحرر من علاقاتها بالسلطة، وهذا ما أكده في نظام الخطاب، وأركيولوجية المعرفة، وغيرها من المتون التي انتظمت حداثتها لتعقب الوقائع من أجل الإمساك بنواصي جدليتها ومنطقها وفكرها الاستكشافي، وهذه الجدلية تروم إلى تبني الاختلاف والممارسة، لأن العلاقة الموجودة بين السلطة والخطاب السياسي هي التي ستؤلف موضوع السياسي، لذا ينبغي أن يدرك السياسي جيدا أن خطابه خطاب لا يتساوق مع شروط الفعل المعاكس، فالخطاب السياسي العربي في حاجة إلى جهاز ابستمولوجي نقدي لإعادة النظر في كثير من القضايا الفكرية والاجتماعية والأخلاقية وعلى رأسها قضايا الأحزاب السياسية وصناعة الخطاب من منطلق عصري، يستحضر الجمهور والهامش كمنجز معرفي وعلمي دون الارتباط بالمركز، فالخطاب لا ينبغي إدماجه في التقنية لمعرفة السياسي ودرجة معرفته، وبرامجه وارتباطاته التنموية الاجتماعية، لا أن يبقى أسير الذات المخلصة له، لذا نرى السمات المميزة للخطاب في ثوبه الجديد هو التحول الذي أصاب مفهوم الانفصال أي انتقاله من كونه عائقا ليصبح ممارسة واندماجه في الخطاب التاريخي، لأن كلمة التاريخ تاريخ المعارف والأفكار، لذا تبدلت ملامحه ولم يبقا شيئا يقلل من قيمة القراءة التاريخية للخطاب أو علامة على فشلها، بل أصبح يعتبر عنصرا إيجابيا يحدد مجال تلك القراءة ويمنح تحليلها الصلاحية والمشروعية، فالخطاب السياسي هو عبارة عن الانفصال والاعتماد عليه كفكرة شاملة واستبدلت بمفهوم التاريخ العام الذي يختلف في خصوصياته عن الأول، فالسياسي لابد أن ينخرط في التنمية الجهوية والوطنية بإدراجه لهذه القضايا المنهجية التي أصبح يتبناها التاريخ في ثوبه الجديد ولم يعد أمامنا إلا الغوص في عرض وتوضيح الآليات المنهجية التي تستخدم وتوظف في هذا الميدان الجديد، وسيكون خطابه عبارة عن تقديم وبسط الاستراتيجية البنائية لهذا المنهج والذي قد أسمى بحفريا الخطاب ونحاول أن نقيم تمييزا بين هذا المنهج والمنهج الذي كان يتبعه التحليل في ثوبه الكلاسيكي، وإبراز القطيعة التي أحدثها هذا المنهج الحفري مع ما كان متبعا في السياسة من جميع الأوجه التي يظهر بها كتقنية في التحليل، فالأحزاب السياسية ينبغي أن تفتح أبوابها للاختلاف وللتوحد دون الغرق في المثالية، وأيضا نشر المبادئ الديمقراطية، وأيضا أن تكون السياسة أرضية سلوكية وكحضور في ذهنية الجمهور كتجسيد لروح الاستمرارية دون مؤشرات الانفصال بين القمة والقاعدة سواء على وحيث “اكتفى كل جانب بالتشعير بوجود تلك الممارسة لدى الآخر” (أي الخصم)، تشهير يطغى عليه في آن واحد الطابع السجالي والعمومي، فالذين يعادون السلطة الاشتراكية السوفياتية كانوا يدعونها بالكليانية، أما الماركسيون فقد اعتبروا السلطة في الرأسمالية الغربية غطاء لهيمنة طبقية، لكن الجميع لم يحللوا ميكانيزم السلطة وهذا ما يشهد به دومنيك لوكور “Dominique le court” أيضا حين يقول “أن فوكو لعلى صواب تماما”، إن المسألة التي يطرحها عن “النمط المادي” للإيديولوجيا، مسألة حقيقية ومادية.
ومن هنا يتبين البعد العميق للفهم الفوكوي لمفهوم الإيديولوجيا عندما أراد أن يعمل على مستوى آخر يبتعد عن المستوى الإبستمولوجي للقطيعة على نحو ما فكر فيها باشلار وعلى الكيفية التي طبقها بها لويس التويسر، أن فوكو حين رأى ضرورة التحدث عن الإيديولوجيا كبعد ديناميكي في فعاليتها وفي وظيفتها العملية كفعالية تاريخية ومادية محددة في الكل الاجتماعي المعقد الذي يتحدد هو ذاته في شروط معينة يجعلنا نقول أيضا مع دومنيك لوكور “أن هذا ما يمثل القيمة النموذجية للأركيولوجيا”.
ثم أن فوكو حين يكتشف مفهوم الواصل L’embrayage، وبالخصوص في كتاباته الأخيرة في “اركيولوجية المعرفة” و”نام المقال”، و”إرادة المعرفة”، فهو يريد إثارة السؤال العميق حول المشكل الجوهري في الماركسية، ذلك المشكل المتعلق بمسألة الربط بين القاعدة المادية، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والبنية الفكرية والإيديولوجية، إن فوكو هنا يحاول أن يثير الأشكال الكلاسيكي للماركسية حول العلاقة بين البنية التحتية والبنية الفوقية بمفاهيم مخالفة وأسلوب عميق، إن مفهوم “الواصل” الذي يقربه فوكو هنا لتبيين العلاقة بين “التشكيلات المقالية” والتشكيلات الغير المقالية يخرج بنا عن المعنى الكلاسيكي من أجل الولوج إلى المعنى التواصلي بمعنى أن التواصل لابد له من شروط موضوعية ومعرفية وخلفية مؤسساتية، فالسياسي في زمن الحداثة لابد أن يكون من الضروري السؤال عن مسار صناعة السياسة، والتنمية، وصناعة القرار بوصفها الأصل الذي انشق عنه هذا زمان التحول إلى إعادة النظر في الهامش من أجل الترحال عن المركز، لذا فالهاجس الجوهري في وطننا العربي هو الانخراط في الحداثة ليس كبعد استهلاكي، بل الانخراط كسؤال وجودي يطلب الإجابة والحفر في عمق الابستمولوجيا المرافقة لحراك السياسة العربية، كما نطالب بالتالي البث في الأحزاب السياسية ودورها، وأيضا قضية الانتخابات، والديمقراطية وحقوق الإنسان، والحرية، والثقافة، كلها مفاهيم ينبغي أن تؤسس في تربية العقل العربي كفعل مركزي ومركب من أجل إقرار بوجود الاختلاف كسؤال قلق لا يجد له إجابة.
إن الحفر الأركيولوجي للخطاب السياسي يبين عن لاتاريخية هذا الخطاب لأنه مرتبط بالمركز، الشيء الذي يجعل السياسي متجاهل لما هو مختلف عنه، فلم يعد السياسي العربي اليوم قادر على تفعيل الممارسة كقاعدة تحولية في معرفة الذات والأفراد بقدرتها وتاريخها هو أساس التغير الذي ينبغي أن يواكب كل التحولات التي تصنع كل المسارات التاريخية وذلك بوجود أبنية لاعقلانية، إذن فهذا المقال هو فرصة قرائية أصيلة لمشروع السياسي لتاريخ الحقيقة الذي يهدف إلى تسليط الضوء بشكل واضح، على الرهانات الايتيكية والسياسية بفضل إقامة مقارنة ومقابلة بين تحليلات السياسي العربي، إذن فالمقال يباشر مساءلة السياسي تحت رواية غير مسبوقة العلاقات بين الحقيقة والحياة داخل سياسة قول بالحرية.