بقلم الاستاذ : حميد طولست
من غرائب الأسئلة المؤرقة لكثير من متتبعي الشأن الوطني ، ما حفلت به مؤخرا الساحة السياسية من مظاهر دعوات المقاطعة وتناقضاتها الفجة المزعجة الكاشفة الفاضحة المفضوحة ،التي أدت إلى نشر الخلافات بين الأفراد أو الجماعات ، وفرضت العديد من الأسئلة المقلقة جدا ، والحساس للغاية ، والتي تكون الإجابة الصريحة عنها شائكة ، كمواضيعها الحساسية والحرجة، والتي تجر على الخائضين فيها سخط وحنق مرتكبيها -الذين لا ترضيهم الحقائق الثابتة التي يمضى عليها الكون -الذين يخرجون علينا – بين الحين والآخر – بمشاهد لا تخلو من التناقضات الساخرة، العاكسة لكل حالات الازدواجية الصارخة بين تعاملهم مع الواقع المعاش ، وبين حملاتهم الاحتجاجية المجيشة والتظاهرات الاعتراضية المطالبة بمقاطعة بعض المنتوجات الاستهلاكية والمهرجانات- مكدونالد ومهرجان موازين على سبيل المثال- دون غيرها من المنتوجات والمهرجانات الأخرى التي يتغاضون المرضي عليها ، حتى التي تعرضت خلالها رموز الوطن لنفس الإذلال والإهانة المؤذٍية لمشاعر الوطنية ، كالذي حدث مع العلم الوطني المغربي ، كما وقع في مهرجان “كناوة” كمهرجان –الذي لست ضده أبدا- حيث أقدم فيه مغني الراب الفلسطيني مروان عبد الحميد، المعروف بـ”سانت ليفانت”، على رمي العلم المغربي أرضا بشكل مستفز ومهين في حفل اختتام مهرجان “كناوة” – الذي شكل ” التمياك” عليه قمة التناقض والازدواجية التي يعتمدها جوهر دعوتهم للمقاطعات وشعاراتها الرنانة البراقة ، التي يروجون على أنها حركة اجتماعية أخلاقية إنسانية ودينية ، للتنديد بما يتعرض له إخواننا الفلسطنين من تقتيل وإذلال وإهانة – المرفوضة والمدانة من كل الأعماق–، الأمر الذي يعكس تناقضات نهج المقاطعة وشعاراتها البراقة ويجعلها في حاجة إلى نهج أكثر وعيًا واتزانًا ، ويفرض الكثير من التساؤلات المعقدة:
كيف لم يتأثر الذين يعتبرون أنفسهم محورها ، بتعرض القيم الثقافية المغربية ورموزه الوطنية للإهانة والإذلال، خلال مهرجان كناوة ؟.
وكيف لم يصدر عنهم أي احتجاج أو استنكار تجاهه ؟ولم نرى منهم أي شجب أو تنديد ، ولم نسمع عنهم أي استياء أو تحسر، وكيف لم ينادوا –كما إعادتهم – لا بمقاطعة ولا بتظاهر ضد الإساءة للراية المغربية ، رمز وحدة المغرب وكرامة مواطنيه، والذي كان من المفترض أن يتم التعبير عن الاستياء والاحتجاج والاستنكار الجماعي عنه ،-سواء كان متعمداً أو نتيجة للتهاون أو الإهمال- من طرف الداعمين لحركة المقاطعة ، قبل الجمهور العادي والمشاركين في المهرجان ، بدل السكوت أو تصنع عدم الوعي الكامل به ، و تركيز الاهتمام على القضايا الخارجية البعيدة عن قضايا وتطلعات الوطن والمواطن ، والذي أدى إلى ما عرفته الساحة السياسية والثقافية من توترات مثيرة للجدل حول التعامل غير الإيجابي وغير المحترم مع القضايا الوطنية المغربية الاجتماعية والسياسية والدينية ، والتفاعل معها بطرق غير مهذبة وغير محترمة وغير احترافية ، مبنية كليا على المعايير المزدوجة غير العادلة، ويلجأ فيها للكيل بمكيالين، والتعامل مع القضايا الوطنية الاجتماعية والسياسية بشكل متساوٍ في الاحترام والتقدير الذي يُتعامل به مع القضايا والأحداث الأجنبية عن الوطن التي يدعمها ، ما يشرعن التساؤلات الملحة حول مدى جدية هذه الحملات ومدى صدقية وصدق الداعين لمقاطعة مهرجان موازين وبعض المنتوجات الاستهلاكية ؟
ويفتح الباب أمام الانتقادات المرة بشأن وموضوعيتها ، وهل هي مسألة مبدأ أم مجرد موضة وقتية سرعان ما تتلاشى؟
ومع كل هذا وذاك ، يبقى إلقاء الراية المغربية أرضًا في أي حدث عام يُعتبر تصرفًا غير مقبول ومؤذٍ لمشاعر الوطنية والاحترام، سواء كان هذا الحدث مهرجانًا أو في أي مناسبة أخرى، لأنها تمثل رمز وحدة الوطن وكرامة مواطنية، وهي مقدسة في العديد من الثقافات والمجتمعات، الحدث الذي يظل معه السؤال مطروحًا بإلحاحية شديدة حول ما الذي يجب أن يكون أولوية في نضال الشعب المغربي من أجل مستقبل أفضل ، “تازة أم غزة” كما في المثل المغربي؟ وهذا لا يعني أنني ضد مساندة أطفال غزة المعتدى عليهم ، ولكن غيرة على رموز بلدي ، ورغبة مني في فتح نقاش حول ظاهرة بعض الحملات العشوائية الداعية للمقاطعة ، وتحليل القيم والمبادئ التي بنيت عليها ، ومساهمة للوقوف على مدى جدية و صدقية جدوى ومفعولية مضامينها ، وصدق والتزام المنادين بها ، وخاصة عندما تتجاوز التقدير اللازم للقضايا الوطنية ، والرموز الوطنية الواجبة الاحترام ؟؟.
ولأننا في حاجة لمجتمع منتج وليس لمجرد مجتمع مقاطع لكل شيء بدعاوى واهية، وكما يقال كلما دارتِ الأهداف في فلك النفس، تبقى حبيسةً محصورة النفع ، ولا تعظُم قيمتُها ولا تتنامى إلا إذا اتَّسع محيطُها وتعدَّته لكافة المواطنين..