اليوم، أتممت بفضل الله، ثمانية وسبعين عامًا، لم أشعر فيها بندم كبير على ما مضى، إلا أنني تحسرت في بعض لحظاتها ، وتألمت كثيرا من تصرفات من منحتهم ثقتي ، وهم ليسوا جديرين بها ، وتشبثت بهم وهم لا يستحقون أن يُتشبث بهم ، والذين كان علي ألا أهدر وقتي في الاحتفاظ بهم ، أو أن أشعل شموع القرب لمن ظننت أني شعلة بينهم ، بينما كانوا يغلقون نوافذ النور في أحلك لحظات عمري الذي أسرفت في تبديده من أجل إرضائهم.
كم هو مؤلم اكتشافي، بعد كل هذه السنوات، أنه لا أحد يستحق أن أسعى لإرضائه أو أن أبدد أيام عمري من أجله، باستثناء رفيقة حياتي وأولادي وأحفادي؛
لأنه حينما يهدر الكرم في غير محله ، فإنه يدمي قلب صاحبه ، ويسحق هامته بكلتا يديه ، ولا يجديه الندم بعد فوات الأوان نفعا ، ولا يخفف حسرته لا دمعا ولا نواحا ، غير الحفاظ على مسافة الأمان بينه وبين الناس..
غير أخذ العبرة قصة القنفذ التي بنى عليها الفيلسوف “شوبنهاور” نظريته في تحليل العلاقات الإنسانية ، والتي سماها بمعضلة القنفذ Hedgehog’s dilemma والتي يمكن أن يتعلم منها الناس الحفاظ على العلاقة بينهم في أحسن أحوالها بتبني مسافة محددة للأمان ، لا هي بعيدة حد العزلة ولا هي قريبة حد الاندماج ، ولا تدخل فيها في الشؤون الغير الخاصة ، والمبنية على الاحترام المتبادل ضمن حدود لا يتجاوزها كلا الطرفان ،والتي تؤكد التجارب أنها أفضل العلاقات وأنجعها وأكثرها ديمومة..
وأليك القصة التي استوحاها الفيلسوف الألماني شوبنهاور من تصرف القنفذ مع أبناء جنسه الذي تأملها شبنهاور في سنة 1851 واعتبرها واحدة من معضلات الإنسان الاجتماعية النفسية ، وسماها : ( مُعضلة القنفذ ) Hedgehog’s dilemma
والتي تتلخص في تصرف القنفذ الذي يدفعه برد فصل الشتاء إلى الاقتراب من أبناء جنسه بحثا عن الدفء فتؤلمه أشواكهم وتؤلمهم أشواكه ، لأنّ الشوك الذي على جسم القنفذ يجعل عملية تقاربه مع أمثاله صعبه ومؤلمة ، نظراً لأنهم كلّما تقرّبوا من بعضهم فإن الشوك يؤذي أجسامهم ، فيقرّرون الابتعاد عن بعضهم ، ثم يشعرون بالبرد فيعودون التقرب مرة أخرى فتؤلمهم الأشواك وهكذا ، إلى أن تفتقت عبقرية القنفذ فوجد حلاً لهذه القضية ، واستحدث طريقة بسيطة ناجحة ، وهي عملية سماها شوبنهار الـ safe distance ( المسافة الآمنة ) ، فاستطاع القنفذ أن يختار مسافة معينة من السلامة ، مسافة تضمن له الدفء الكافي ، وفي نفس الوقت أقل درجة ممكنة من الألم.
فقام شوبنهاور” بإسقاط هذا التصرف على العلاقات الإنسانية، وأكد أن الإنسان يشعر بالحاجة الشديدة لمعاشرة أبناء جنسه ، فتقترب الناس من بعضهم ويتفاعلون ، لأنّ الوحدة تبقى قاسية جداً ومؤلمة على الإنسان الطبيعي ( مثل البرد بالنسبة للقنفذ ) ، فيفعل مثل القنفذ ويبحث عن أبناء جنسه ويلتصق بهم من أجل الدفء النفسي ، لكن ذاك الالتصاق والقرب لا يكون دائما مصدر سعادة وراحة على الدوام ، وإنما العكس ، قد يكون مصدر ألم ومتاعب نفسية له ولأقرانه ، ما يولّد مشاعر سلبية كثيرة مثل الضغط النفسي والإحراج والفراق وغيرها، لذلك وجب اخذ العبرة من القنفذ في إبقائه على مسافة الأمان التي اتخذها القنفذ من أجل ديمومة علاقة مبنية تبدال المنافع مع الاحترام المتبادل المحافظ على العلاقات الإنسانية في أحسن أحوالها ..
حميد طولست Hamidost2@gmail.com
مدير جريدة”منتدى سايس” الورقية الجهوية الصادرة من فاس
رئيس نشر “منتدى سايس” الإليكترونية
رئيس نشر جريدة ” الأحداث العربية” الوطنية.
عضو مؤسس لجمعية المدونين المغاربة.
عضو المكتب التنفيذي لرابطة الصحافة الإلكترونية.
عضو المكتب التنفيدي للمنتدى المغربي لحقوق الإنسان لجهة فاس مكناس
عضو المكتب التنفيدي لـ “لمرصد الدولي للإعلام وحقوق الأنسان “