على الرغم من كون المسيحية هي أكبر ديانة في الغرب إلا أنه نادرا ما نصادف من يتمظهر فيها بسمات التدين بهدف تحقيق المكانة الجماهرية المؤثرة ، سياسيا أو اجتماعيا، أو لكسب ثقة الناس واحترامهم ، وبالتالي قلما نجد منهم من يفرط أو يبالغ في الحديث عن الدين دون أن يضمنوه في تصرفاتهم وسلوكاتهم المعبرة عن إيمانهم الحق بمعتقداتهم النابعة عن علمهم ومعرفتهم بدينهم ، الذي يدعو –كما أي دين آخر-إلى التحلي بمكارم الأخلاق وجميل الصفات والتمسك بأفعال الخير ، بخلاف التدين الشكلي “المظهري” الذي يمارسه الكثير من اصحاب النفوس المريضة الذين يتقمصون شخصية الرجل التقي الملتحف برداء الزهد والعفة المصطنعة، التي يتعمدون اظهارها بكل الوسائل ، عبر بعض المظاهر التي وقفت عند واحدة منها بل واخطرها والتي صارت -في غفلة منا -في العقود الثلاثة الأخيرة مرضا مزمنا يحتاج للدراسات المعمقة للوقوف على أسبابها ودوافعها ونتائجها ،والمتمثلة في تديين كل شيء ، وتحويل أي نقاش علمي او عقلي حول أي موضوع في أي مجال من مجالات الحياة ، السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، إلى نقاش في الدين والتدين الهواية التي استهوت الكثير من المتشددين الأميين ،الذين الفوا الخوض في الدين بدون علم ، وضدا في أمر الله سبحانه وتعالى في الإسراء 36 : “وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ” ، وخاصة حينما يتعلق الأمر بالمرأة والحجاب وضرب الزوجة ، وتحريم الاختلاط ، والسبي ؛ الظاهرة الخطيرة التي تواجهنا اينما ولّينا وجوهونا، حيث أننا وبمجرد أن نفتح أي نقاش ، أو نحاور أي كان في أي مكان في منطقتنا الموبوءة بهوس التدين المظهري حد التخمة، إلا ونصاب بالذهول والحيرة ، أمام إنحراف محدثنا بموضوع النقاش ، بوعي كامل وعن سبق اصرار وترصد، إلى نقاش ديني ، حسب الفهم السائد عن الدين المحرف والمعزز بفوضى الفتاوى المحرضة على الكراهية والمذهبية ، والشروحات والتفاسير المستوردة من ثقافة القبور التي يزخر بها ثرات السلف الماضوي الزاخر بالحقائق الدينية المشوهة ، والبعيد كل البعد عن الفهم الصحيح للدين والمنطلق من الدراسة الموضوعية للقرآن الكريم . ولكي لا نختبئ خلف أصبعنا ، وحتى يعي من له شك فيما قلته حول هذه الظاهرة المعقد – التي ربما لم يلق عليها الضوء الكاف ، أو لم يلق أي ضوء على ما تشكله من خطورة على صفاء الدين الحنيف – أورد هنا بعض النماذج الصارخة لسلوكيات أولئك الذين يدعون الالتزام الديني في مقالاتهم ، ويواظبون على افساده بأفعالهم و أخلاقهم ، والذين قال فيهم ابن تيمية: “فلا يغرنكم من قرأ القرآن ، إنما هو كلام نتكلم به ، ولكن انظروا من يعمل به”، من رجال الدين الشرفاء الصادقين ، وأئمة المسلمين المعروفين بالنخوة والكرم والإباء والشهامة الإسلامية النابعة من مخافة الله ، التي تبعدهم عن هذا “العهر التديني” الذي نصطدم بجدار حقيقته في حياتنا اليومية ، والتي سأكتفي منها بهذا النزر القليل على سبيل المثال : حيث أنك لا تفتح حاسوبا إلا وتواجه بسيل من أدعية أصحاب “جمعة مباركة” ولا تشغل هاتفا إلا وتسمع آي القرآن الكريم تتلا بصوت عال ، ولا تدخل مقهى أو متجرا أو أي مصلحة عمومية أو عيادة استشفائية ، أو تركب الترام أو الحافلة أو التاكسي ، إلا وتسمع الهواتف تصدح بالآذان والتكبير أو بالأذكار والأناشيد الدينية ، ولا تلج مدرسة ، إبتدائية أو إعدادية، إلا وتجد أن مسابقات تجويد القرآن تحتل معظم أنشطتها ، وحتى في الحضانات ورياض الأطفال لا يلقن الأطفال الصغار فيها إلا الأحاديث النبوية التي احتار في معانيها الكبار ، ولا ترمق أي سيارة فارهة كانت أو مترهلة ، إلا و قد كتب على نوافذها الخلفية عبارات : “لا تنس ذكر الله” أو “هذا من فضل ربي” وغير ذلك كثير من شعارات التدين المظهري الذي يراهن عليه أصحابه لتغطية بعضا من الفساد والفسوق الذي يعم المجتمع، الحال الذي يفرض العديد من الأسئلة حول هذا الهوس التديني، والذي غابت معه ثمار الدين ، وخرج في الأزمنة المتأخرة ، -أو شطر كبير منه على الأقل- عن تعاليم الدين الأصلية ، وتحول إلى محاباة المجتمع والدولة والفقهاء والمذاهب والجماعات الدينية المختلفة ، الانحراف التديني الذي يكاد يجهل عموم الناس حقيقة ما هم فيه وعليه من تقصير وعصيان وانقطاع عن الله ، والذي هو وبال عليهم وعلى مجتماعتهم بما ينشره فيهم من عداوة وعنف وإقتتال حتى بين أصحاب والمذهب الواحد. ليست الغاية من هذا المقال ، هو نقد الإسلام – كما يتبادر لبعض الأذهان المغيبة -وإنما هو التنبيه إلى وجود ظاهرة خطيرة منتشرة على نطاق واسع في المجتمعات العربية والإسلامية وحدها من غير أمم وشعوب العالم -التي عبرت منذ قرون مسألة الفهم الديني ، وحسمت امرها بشأن دياناتها – وهو لتحفيز وعي الفرد بمخاطر التدين الظاهري ، الذي تعمل الحركات الإسلاموية على تكريسه بيننا الناس في الآوانة الأخير ، في ظل صمت المجتمع المدني، وغفلت الصحافة، وتراجع الدولة، أو “إسترخاؤها” في تطبيق القانون، وسكوت وزارة الأوقاف المعني الأول بالتصدي لهذا المسخ المشوه للدين ، وكأنهم سلبت منهم الإرادة ، أو أُلجموا ،هم أيضا، بلجام تلك الأفكار، أو فقدوا نباهتهم السياسية المعهودة في مواضيع أقل خطورة على الأمة ودينها.