على طرقات القصيد، يحس الشاعر بالليل المعرش بالعروق والأوتاد، ما أكثر العلل التي سقطت فوق أسوارها، والشاعر محمد بلمو ابن الشعر يفتح للحروف لتتداخل في زمن الفصل، ها قد برز الشكل وانكشف العرض، فظل ينتظر السفر والبشارات الصوتية، ويلوح من وراء الطود كالوشم الذي تعتق في كتب الدراوي،
محمد بلمو يلجم الخيال دون نفور المدى، ينبش في اليابسة، وفي كل عصور الأباطرة وفي تاريخ الغزاة، والقوافي تسرد الأوجه الظلومة كميلاد للحرية، هكذا سيحمل بولادة المتألهة.
في الأقوال وسواد الظلام، يسكن أكوان السكرى التي أودعتها البسمة كقدر في الزوايا، يظل يحمل معوله بين الألم المديني وبين نجوم الليل الساهرة، وبين أجسام جاثمات على طرقات يرقدن قرب المرايا،
أنت المارد يملأ العالم بالصراخ، يلهم التاريخ بالامتصاص لكي يتخذونك مغنما، أنت البارع بالحروف دون أن يغسلوا دموعك من الكتابة، قال لبيك أيها الشعر، يدعوك وأنت تحمل والمعاول والفؤوس لتلهم أفئدة المحاربين
إن صلاة المسيح المستحيل ونار الشعر في نهار الضياع يضيء الوجوه كحنايا قلبك والوهج يسكن الأرض والشعب، وكل أشتات المنى المبعثرة، الماضي أرض الحلم والحب والإيثار، أه يا شاعر أين موج القوافي والخيال لم يأتي كموكب الفرح، يا شاعر لا تسقط بالطعنات ولا تقف بسواحل الليل الجهنمية
يا شاعر ما زلت سيد الفرسان، مجدك الكبير رياح للوطن، في خيمة امرؤ القيس نصلي للوداع ونصفح النجوم بالألغاز وبالأحرف، كيف يموت الشعر وأنت سيد الخصيب، من أجلك نموت ونحيى وما يقتلنا إلا الشعر، صوتك أذان في الكلمات وعينك هاجرتها السعادة، لا ترى غير رياح عطيل وراء الثغور
ها أنت تكتب من وراء المجد، تبصر المدى الذي يمحو السواد، نزلت في الأسواق، تمشي وتمشي، والقصائد تمتص العصور من أجل رماد اليقين، تعرف الأمهات والشيوخ والأطفال الغارقين في الفراغ ويدك تلونت بالغبار والتراب صمتك نبراس الأهل والدوار، أنت في حضرة الشعر تستجلي موعدا للهواء، تقص كلمات في خمسة أيام للجملة المحتلة، في هيكل القصيد يأكل الكادح خبز المجنون وصائد الذباب والوحش فوق هذه الدواوين تذوب في عروق البياض وفي خمائل الصمت.
مد يدك للسياف، وانشر اليقين المستحيل، قصائدك حولتها السنين، ها أنت صياد الأروية والأصداف والأطياف، توحدت بخرائب المدينة في ظهر الهواء، وضج الفقراء حولك، يبكون يتسولون على وقع خطا الرماد، لم يجدوا غير حنظلة والسلطان يرقصان، ها نحن حفاة عراة، ينتظرك الوطن، هجرتك البادية من المدينة قبل ألف عام وعام
في سنوات العاصمة، العقم عانقك، والسفر مد ذراعيه من أجل المغفرة، تقطع الطرقات مع العميان والقفاة، والسياف على القطار لا يعرف هوية صاحب طعنات في ظهر الهواء، ولا رماد اليقين، يفترشون الأقاويل لعلهم يحرقون ألسنة الشعراء، من أين لك هذا العبير يا مغلق الأبواب؛ أنت الشاعر تكابد الأهوال، وتركب صهوة الألم، أنت حنظلة تنشر رمادا فوق الدفاتر، يريدون أن يخمدوا نورك ويمزقون الأوراق في الأوحال، لكن هيهات هيهات …
أنت الشاعر الذي تكسو الحروف بلا أسمال، تنثر قطرات الوعد والوعيد، فلا تدع قيثارة لهذا الجسد المصلوب، أوصال الناس غادت سمادا، في تربة النسيان وفي غابة المنسيين، فأنت كالزيت في الموقد، والبذرة التي لا تموت، أنت الطود والمداد، والبحر المنسكب
لماذا تحرق أوراق الجامعة، في قبضة القصائد، بيتا بيتا، حيث نذكرك نتذكر الطعنات، والرماد، والموت، والحياة، والألم والإنسان حين أذكرك أذكر حنظلة السائح في دروب المدن الفاجرة والتائهة، تزرع في كل مدينة ذاكرة، تمسك أوراق الريح لتنشر سفر التكوين على الحواريين، في كل سفر تكتب مقبرة للشعراء، ومقبرة للدراويش وأنت على قطار الصمت الممتد بين حدود العاصمة ورياح الأحبة
قبل الفجر يعلو صوت القطار، أمام وجهك ترسم للأيام الخدود بالفسيفساء، تزرع بين المدى رحيق الأبد، تبحث عن الطريق وأنت تحرق الآلهة الحزينة، على الطرقات تهرب من نوافذ المستحيل، والرياح تمحو كل الأجساد العارية، لم تعد محارا بل ملحا وترابا، لم يعد لك غير المداد لكي تتهادى متمردا، لا تأبه بفرح الأرز، لا تعنيك الديون وأحجية الرأسمال، يستهويك الطيس عادة حين يفزع الصبر من صبرى، حيث يضيق النهر بأشجاري، وتجفل الخيول من ظل حشائشي، ينتفض النحل وأنت ما زلت تنتظر، والقصائد تدير شؤون الأساطير، كان شيء يشبه مهيار، ينوح داميا قبل أن يستيقظ في الموج، ما يقع انتظارك أمام وجه الحجر، فهذا المدى ساحتك، لا تتذكر إلا بني عمار خلف الستار، جدائل الأزهار تمحو مسافة الرياح وأنت راحل إلى سكون سيدي يحيى الغرب، لتظل صامتا على خطوات أموات الحب
شعرك يرقد في خريف سيدي يحيى، يرقص كغيمة على منديل أمي، يا أيتها المدينة ناوليني هنا حبة ليمون، خذيني إليك هنا وهناك حيث يحل السلام، صورتك امرأة تحب المحاريث والجمال، والشاعر فيك يكتب حكاية ليملك الكلمات، هو هناك، يناديك بقيثارة أوروفييوس، هنا هو – هو هو – يعيد الصلاة للمدى، أنت شاعر وملك وحكيم على حافة البئر، قصائد في ديونه، وعناوين على معبد الأبولوني كبركة المساء تنشر السحاب لينكسر أفق المدى، العصافير تشتكي لليلى، تغرب عن زمنها كعلقة الجاهلي، لا شيء أبعد من لغة المهاجر، أنت الشاعر، أعرف أنك سريع الغصب، لقد أنهكتني قطع غيارك، كي أخفي فجوة كبيرة في مدني (ص 47) .
دواوينك إشارة للبدايات، أنت الموج الوهاج، أنت الحلاج ببردة التقوى في جنة المأوى، أنت العاشق لم لا تهجرني إلا لتعيد لي عاصفة أخرى، وجمرا صعب المراس، وبعض الموسيقى لحسن الحظ، كلما تذكرت سراديبي، وتلك الأشجار غرسناها معا، رماد اليقين ص 24، عذابك يحيط بالمدى، والليل يبدع أهدابا للنهار، ويمسح للمساكين العراة، أيها الشاعر المدن والدواوين والطيور، والموج يغسل حنين الغربة، وأشعارك أسرار للنصوص، تقول وتقول أحبتي وراء قضبان الألم، لا سلاح لكم غير جوعكم، لا عرب في جسد لا عجم (طعنات في ظهر الهواء، ص: 53)
أنت الشاعر بحماقات السلمون بصوت التراب الذي يبحث عن رماد لكي يكون يقينا، نموت بطعنات الهواء ونسكن في خمسة أيام في فلسطين لكي نعرف هذه المدن الجليدية كتبت اسمك على الحائط كي يتذكره العابرون، قبر أريج تبدده الرياح لتسحر الهواء ولكي لا يرافق الطرقات، وأنت تظل يدك على الجرح لتغني للرمال تشعل النار من الحطب المتبقى في الماضي وأنت تعبر المدينة، واليأس في تجوال معك، كيف تبقى وحيدا تحمل هم السنون، كيف نصفق للأمهات التي تركت العيون تنبش في القصائد وأنت لبست فيها درع اللوم والطلول، وارفع يدك مع العمال الراكضين خلف عشتار واكتب صرخة تعود إلى حاجب أبولون، إذن ماذا تقول الصرخة الشعرية للمدن الجليدية، اخرج من عيون الأوراق إلى حصون الإبداع، لتكون الأقدام جذور للألوان.