هل الوعي نعمة أم نقمة، أم كليهما معاً؟


الجديد بريس – حميد طولست

هل الوعي نعمة أم نقمة، أم كليهما معاً
“ما في الهم غير الي يفهم” عبارة ترسخت في أعمق دواخلي جراء كثرة ما رددتها على مسامعي المرحومة جدتي للتعبير على أن الوعي الزائد موجع ، بل هو أشد وجعاً بكثير من عذاب البدن وألمه الذي يمكن مداواته مهما ساء ، بعكس النفس التي يصعب إشفاؤها من الهم والغم والحزن الذي يصيبها به الإدراك الهوسي، الذي أصبح في مجتمنا ظاهرة مرافقة للبشر ، وطبيعة ملتصقة بعامة الناس وبسطائهم وعلية القوم منهم الذي أضحوا لا يستطيعون التغافل عما يراكم المشاكل فوق رؤوسهم ، ويصرون على إستيعاب وتحليل ما يعذب نفوسهم ويبكيها ، والغير محصورة عند نفر من الناس دون غيرهم ، الأمر الذي دفع بالمثقفين والكتاب والأدباء والفلاسفة ورجال الدين ، للخوض في علاقة الوعي بالمعرفة والعقل والوجود ، بحثا واستغراقا ، ليصلوا في شبه إتفاق كامل – لما وحصلت إليه جدتي قبلهم بدون دراسة للفلسفة أو علم الاجتماع – إلى أن الوعي الشديد بما حولنا هو مرض حقيقي خطير لا يصيب إلا الذين يستوعبون أكثر ، كما قال “ديوتسفسكي”: “أقسم لكم بأغلظ الايمان أيها السادة أن اشد الإدراك مرض حقيقي خطير ، وإن إدراكا عاديا هو من حاجات الانسان ، أكثر من كاف” ، وأن المغالاة فيه ، حسب “سيوران” “لعنة مزمنة ، وكارثة مهولة”، ومنفا حقيقيا للإنسان ، الأمر ذاته الذي أكده “كفكا” بقوله :اذا كان هناك ما هو اشد خطورة من الافراط في المخدرات، فمن دون شك ان الافراط في الوعي وادراك الاشياء لا يقل عن مفعول المخدرات خطورة على العقل ، الذي اشار المتنبي معاناة أصحابه في بيته الشعري الشهير:
ذو العَقلِ يَشقَى في النّعيمِ بعَقْلِهِ : وَأخو الجَهالَةِ في الشقاوة ينعم..
وغير ذلك من الأقوال والحكمة والأشعار التي تثبت صحة المثل الدارج الذي طالما نصحتنا من خلاله جدتي بالتحرر من الإنشغال الهوسي بما حولنا من الأشياء والأشخاص ، والابتعاد عن إصدار الاحكام على الغير انطلاقا من استرجاع المعلومات السابقة والمعايير والقناعات الأخلاقيّة المخزنة والمبنية على مدى قبولنا بتلك الأشياء والشخاص أو رفضنا لها ، والذي أولى ثمار تلك النصيحة ، هي راحة البال والعودة إلى الذات والنفس وإنقاذهما من جحيم آلام عته الوعي الهوسي بالأشياء بالتغافل والتجاهل، الذي قيل فيه وعنه: “أنه “أفضل رد فعل تجاه المستفزين الذين لا ينفع معهم الحوار و إنتقام راق منهم” ، ” وكما قال جبران خليل جبران: “إذا تعلمت التجاهل فقد أجتزت نصف مشاكل الحياة” ، وأختم كلامي برد الاعرابي الذي سئل عمن هو الذكي فقال :هو الفطن المتغافل المبتعد عن القيل والقال ، الذي يرى الاخطاء ولا يراها ، ويرى حاسده ولا يهتم ، ويرى الفتنة فلا ينخرط فيها ، الذي يبيت وقلبه نقي ونفسه راضية ، فلا تعب ولافكر ولاكدر ولا هم ..
ولكي نعيش فى راحة بال وتدوم لنا الصحة والعافية حسب نصيحة جدتي ، علينا بتجاهل كثير من الأمور ، والتغافل حتى عن المزعج منها ، وتركه ، لأن التجاهل ليس غباءا ، و التغافل ليس عيبا ، والتسامح ليس ضعفا ، ورحم الله امرء تجاهل من اجل بقاء الود.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *