ترجع عادة تخليد مناسبة المولد النبوي في المغرب إلى عهد حكم الموحدين ما بين 500 و620هـ ، الذين خصصوا للمناسبة احتفالات ذات طابع ديني اجتماعي لمواجهة ثأتير الاحتفال بعيد ميلاد المسيح على المسلمين، الاحتفالات التي أضحت مند ذلك الحين من أهم المظاهر الدينية الأصيلة ، وأبرز تقاليد التراث الشعب المغربي ، الذي درج على إحيائه عامة المغاربة ، كما ساكنة حيّنا الشعبي فاس الجديد التي استحضرت قبل أيام – كعادتها المتوارثة – هذه المناسبة العظيمة على نفوسهم ، إلا أنه لوحظ وللأسف، أن الإحتفال كان هذه المرة مطبوعا بروح فاترة ، حيث لم يوازي الاستحضار– على غير العادة -مقدار تفانيهم في حب المحتفى به رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وحب آل بيته ، وتمسكهم بما يذكرهم به من المثل العليا للإسلام ومعانيه السامية ، ولم يماثل قدر عظمته وإجلاله في نفوسهم وتقديرهم لأبعاد آفاقه التي بدلت مصير البشرية ، وارتقت بثوابتها الثقافية وقيمها الإنسانية والدينية وحثها على مراجعة الذات وسلوكياتها التربوية الروحية والأخلاقية.
فعلا كم هو مؤسف أن تستحضر هذه الذكرى العظيمة التي ليست مجرد شعيرة دينية وحسب ، بقدر ما هي رحلة وجدانية بين العقل والروح ، بنفس الفتور الذي تُستحضر به صغائر الذكريات الاجتماعية ، ويُتعاطى مع عظمة ما أحدثته من اضطرابات مهولة في عروش الظلم والعبودية والفواحش والانحلال والعقائد الحيوانية، بنفس الإهتمام الباهت الذي نوليه لبسيط الأحداث الروتينية المطمورة في أقباء أيامنا التافهة ، وبنفس الطقوس الاحتفالية التي لا معنى لها أو عبرة ، والتي لا تليق بعظمة صاحبها، والتي لا تتعدى تناول طبق من السميد بالعسل ، وإعادة مشاهدة فيلم “رابعة العدوية” أو فلم “الرسالة” ، والاكتفاء بترديد اللازمة الفموية “الصلاة على النبي الكريم” دون انتصار لدين الله ، ولا تجديد لبيعة رسوله محمد ، ولا إحياء لتاريخ العزة والكرامة والإنسانية ومكارم الأخلاق وقيم الخير والاحسان والعدل ، التي جاءت بها رسالته الخالدة .
فما أجمل ما كنا نستشعره من احتفالات المولد النبوي الشريف ، الذكريات عطرة ، والعبر خالدة ، والحضور صادق ، والانفعال المعبر عن الفرح البهي والحبور الشجي ، الذي عرفناه ونحن صغار ، قبل أن تغزو العتامة العقول والقلوب ، و تستهدف القيم الأخلاقية والثوابت الثقافية ، وقبل أن تسيئ للرموز والمناسبات ، وتشوه أثرها على حياة الناس وإثرائها لكافة مجالاتها الفنية والإبداعية ، وما أفرزته من تفرد مغربي ، تظهر عبقريته من خلال الفنون التراثية المجسدة لملامح المسالك الروحية والطقوس العريقة الموثقة للاحتفاليات الشعبية المغربية بالمولد النبوي ، والتي من جملتها أمسيات السماع الصوفي والمديح النبوي التي يتم إحياؤها عبر ربوع البلاد في إطار مهرجانات وحفلات تقام برعاية المؤسسات الدينية الرسمية والمدنية والشعبية ، بأهم المدن المغربية ذات الثقل التاريخي والإشعاع الروحي من قبيل مدن فاس وطنجة وتطوان وسلا ومكناس ، وغيرها من المدن التي يشكل فيها السماع والمديح جانبا هاما من التراث الموسيقي والغنائي الزاخر الذي تميز المغاربة بالمحافظة عليه وتوارثه عبر الأجيال المتعاقبة منذ قرون خلت ، بشتى أنواعه من تلاوة وتجويد وترتيل لكتاب الله وأذكار وإنشاد والأشعار وأمداح لرسول الله محمد ، وديانة محمد ، وللعوالم المحمدية العطرة ، التي دأب ملوك المغرب على رعاية إحياء أمسياتها بحضور مجموعات المنشدين، قبل أن يتسع نطاقها إلى الفضاءات العائلية والزوايا المغربية التي برع في أداء أمهات القصائد الصوفية من قبيل البردة والهمزية للبوصيري، والألفية لابن رشد البغدادي، والمنفرجة لابن النحوي وغيرها من فنون السماع والمديح النبوي التي يمتد عمرها قرونا طويلة، خصوصا خلال الفترات التاريخية التي عرفت نوعا من التشدد الديني ضد الممارسة الموسيقية، حيث ظل الباب مفتوحا أمام الإنشاد الديني في الزوايا، وهو ما ساهم في حفظ الطبوع والإيقاعات التي عبرت من الأندلس إلى المغرب ، واحتضنته الجمعيات المهتمة ووتثقت متونه ووطدت أسسه العلمية الموسيقية وجددت آفاقه الشعرية والإيقاعية وأهلّت حملة مشعله من الفتيان والفتيات ..
وكل مولد نبوي وانتم بالف خير.