المسرح عند عبد الكريم برشيد

إنجاز: د الغزيوي ابو علي

المسرح ذات في إطار التغيير والتحول، ورحلة من الأنا إلى الآخر، ومن الفرد إلى الجماعة، ومن الحس البسيط إلى المركب، إنه تجاوز الذات، إنه تاريخ لما أهمله التاريخ وحفر اركيولوجي في ما ورائيات الحدث والفعل، والشخصية والموقف، إنه كتابة لا تتم إلا بالإسناد، إنه لغة تجمع بين الكلمة والإشارة والإيماء، والرقص، والفداء والإنارة والفضاء والزمان.

ويأتي مقالي هذا ليجيب عن بعض التساؤلات: ما علاقة اللغة الدرامية بالتواصل المسرحي؟ كيف يمكننا أن نصنع فرجة جديدة تتجاوز الكائن؟ وهذه الأسئلة هي التي دعتني إلى اختيار النتاج المسرحي لعبد الكريم برشيد، لإنتاج تأصل في التربية المغربية، وتاريخ للهوية العربية بطرق مختلفة تجسدت في اللغة، والفعل والحدث، فمسرحنا مسرح جديد يلبس أقنعة مسرحية ليزيل عن الواقع اليومي الأقنعة التي يختفي وراءها.

وهكذا يمكن لهذا البحث أن يفتح لي باب الاطلاع على مختلف النظريات التي اهتمت بصناعة الفرجة المسرحية سواء كانت غربية أم عربية.

لا نهدف من هذا الاختيار أن نستقرئ كل التعاريف المتباينة عن الدراما والفرجة، بل أن هدفنا يتوخى معرفة الجوانب الفرجوية الحديثة والمتطورة التي جعلت المسرح المغربي يعيش خارج لعبة الكتابة الدرامية، كما أننا نريد أن نطرح مشكل المتخيل واللغة الدرامية في علاقتها بمكونات العرض المسرحي المتكامل، وبعد ذلك نتعرض للسؤال المتعلق بتأثير الصناعة الفرجوية في الجمهور، وما هي العناصر الجوهرية لصناعة الفرجة المسرحية؟ ما السمات الأساسية التي جعلت كتابات عبر الكريم برشيد تأخذ أبعادا دلالية ومسرحية جديدة، لننتقل بعد ذلك إلى استقصاء كل مظاهر التواصل المسرحي اللساني وغير اللساني في كتابة هذا المبدع، ونشير في هذا الصدد إلى أن تركيز اهتمامنا في تناول موضوع المتخيل أو صناعة الفرجة في كتابته، كان بدافعين أساسيين.

  1. يتعلق الدافع الأول بأهمية المتخيل وعلاقته بالجمهور في إطار شبكة العلاقات التي تتأسس داخل النسق المسرحي العام لأن البعد الذي أسمى إليه هو معرفة اللغة الدرامية، كيف تتخذ مواقع وأشكال جديدة تتداخل فيها عدة أبعاد، كالبعد الحركي والتوابع الأخرى مع المتخيل المسرحي.
  2. ويتعلق الدافع الثاني بعدم استيعاب بعض المشتغلين في العالم العربي لآليات المتخيل، والأبعاد الإيمائية والملابس والاكسسوارات، والأصوات والإنارة، والملابس…

هكذا سأعمد إلى تحديد مفهوم الإشارات المسرحية وقيمتها في العرض المسرحي، لأنها ليست سهلة نظرا للخلط بين الإشارات والحوار وأما المدخل فسأخصصه في البداية للحديث عن اللغة الدرامية وتطوراتها، مع معرفة الجديد في الموضوع، ونعرض بعد ذلك التصور الأول عن اللغة الدرامية، عند هذا المبدع انطلاقا من كتابته التي تهتم بصناعة الفرجة، بوجه خاص وعلى ضوء هذه التركيبات التي تعني باللغة الدرامية سنحاول استقصاء مكونات صناعة الفرجة انطلاقا من نصوص مسرحية لا بصيغة المفرد، وذلك من خلال المفاهيم التالية: الكلام، الحركة، الإشارة، الإيماءة، الماكياج، اللباس، القناع، الإنارة، الديكور، الموسيقى، الرقص، الاكسسوار، الأصوات الاصطناعية التي تعمل على تحقيق التواصل المسرحي من خلال أدوارها والمفارقات التي تعكسها في الزمان والمكان، كما نجد أيضا البعد الجمالي والتواصلي الذي سنعمل على مقاربته من خلال محور زمن العرض وزمن الجمهور، فالمسرح عنده يتشكل من عناصر درامية انطلاقا من المتن المدروس المتباين بل هدفنا معرفة الجوانب الفرجوية القديمة والجيدة والمتطورة التي جعلت المعرفة المسرحية العربية تعيش خارج لعبة الكتابة الدرامية في علاقتها بمكونات العرض المسرحي المتكامل، لأن السؤال المتعلق بتأثير الصناعة الفرجوية في الجمهور وما هي العناصر الجوهرية لصناعة الفرجة المسرحية؟ وما هي السمات الأساسية التي جعلت كتابات برشيد تأخذ أبعادا دلالية ومسرحية جديدة كمظاهر التواصل المسرحي، اللساني، في كتابة هذا المبدع، ونشير في هذا الصدد إلى أن تركيز استراتيجيتنا في تناول موضوع اللغة الدرامية أو صناعة الفرجة في كتابات برشيد كان بدافع سببين هما:

  1. يتعلق السبب الأول بأهمية “الدرامية” وعلاقتها بالجمهور في إطار شبكة العلاقات التي تتأسس داخل النسق المسرحي العام، إن وجه الإشكال في هذه النقطة يكمن في وظيفة اللغة، لأن البعد الذي أسعى إليه هو معرفة اللغة الدرامية، كيف تتخذ مواقع مختلفة منها السيميائية والواقعية والرمزية، لأن المتخيل هو الجوهر بالنسبة إلي حيث يتجاوز كل التعريفات التلقينية فيأخذ أشكالا جديدة تتداخل فيها عدة أبعاد:
  • كالبعد الحركي.
  • والديكور.
  • والرقص.
  • والغناء.

وبناء على ذلك سنعيد طرح الأسئلة النظرية، ما هي عناصر صناعة الفرجة، أو الدراما؟ هل يملك صناعة درامية وما هي مواصفاتها؟ وما علاقتها بالمتلقي إلى الجمهور؟ كيف يستقي الجمهور مادة الفرجة من العرض؟ وما علاقة هذه الإشكالية الكبرى بالساحة الثقافية المغربية والعربية؟ كلها أسئلة لا تتطلب الدرامية الأحادية فقط، بل تستدعي دراسة ميدانية تعتمد على الاستمارات وعلى استجوابات الجمهور من طرف الباحثين قصد استقصاء نظام التواصل بين النص والمتلقي وهكذا نجد عناصر المتخيل المسرحي تنطلق من:

  • المؤلف.
  • المخرج.
  • الممثل.
  • الديكور.
  • الإنارة.
  • الماكياج.
  • الأصوات / الطبيعية والصناعية.
  • الأكسسوارات.
  • الزمن / المكان.
  • الصوت – الحركة – الإشارة.
  • الزمن – المكان – الخشبة – الفضاء.
  • اللغة التواصلية / النص غير اللسانية.
  • اللغة الشعرية / واللغة المسرحية.

لأن المسرح عند برشيد مفتوح بلا ستائر ولا حواجز ولا دقات تقليدية كل شيء يركب أمام الجمهور وبمشاركته1، من هنا حاول برشيد أن يجدد علاقة الشخصية بالزمن، هذا التحديد يقوم على مبادئ جديدة بعيدة عن التصور الدرامي أو الملحمي ليقربنا من كل مستويات تلقي الخطاب المسرحي انطلاقا من النص / والعرض ومن خلال استجوابات مع الجمهور، مع التمييز بين الجمهور والمشاهد والمتلقي والمتفرج وكذا مدى معرفة نجاح كتابته الدرامية، فهذه العناصر التي حددناها، قصد معرفة هل نملك جمهورا يعرف المسرح؟ وكيف نعمل على تفصيل بين الجمهور المؤسساتي المعتمد على تزجية الوقت، والجمهور الواعي الذي يتخذ المسرح كفن ليخدم به أغراضه اليومية، لأن الجمهور عليه أن يتلقى المسرح في انكساره لا في خطيته، الشيء الذي يحرر العمل الإبداعي من الجبرية، جبرية السقوط الفاجع وجبرية الحل السخيف، فلا حل ولا نهاية في المسرح، فالعرض ينتهي ولكن ما يحمله من إيقاعات وشعرية جمالية تتساوق مع الشعريات العالمية لا تنتهي كما يرى برشيد، فالكتابة الدرامية المغربية عنده عرفت عدة إشكالات في تعاملها مع النص المسرحي، إذ التجأ الكتاب تارة إلى التاريخ وتارة إلى التراث، أو الأسطورة، إذ جعل من انطلاقته بديلا جديدا لكل مرحلة قديمة وبدل المواضيع والقواعد، التي لم يقل بها أرسطو ولا مفكرين متأخرين بحيث أصبح الجمهور المغربي على العموم والعربي على الخصوص حاضرا من خلال الخطاب المرسول والمستخلص من كتابته، هكذا بدأت بداية مسرح عبد الكريم برشيد تأخذ بعدا نسقيا جديدا إذ بدأت تأخذ لعبته الدرامية تحققاتها من خلال العلاقة بين المسرح والجمهور وبالتالي التجأ إلى اختيار مواضيعه وأشكاله الفنية من التراث الشعبي لكي يعبر عن اللحظة التاريخية الراهنة والمعطيات الاجتماعية التي هي امتداد لتاريخ وثقافة هذا الشعب.

وحاول في هذا أن يغاير النص الكلاسيكي لأنه غير قادر على الانسجام مع الشعب، وبالتالي ليست باستطاعتنا خلق وإبداع أشكال جديدة للنهوض بالمسرح المغربي، وأمام هذا الإحساس ومن أجل إيجاد صناعة فرجوية جديدة وإبداع جديدة سعى برشيد إلى تحقيق هذا المصطلح “المتخيل” وتم ذلك عبر مراحل ثلاث:

  1. المرحلة الأولى: البحث في المواد الخام العربية أي الرجوع إلى مصادر الإنشاء المسرحي والتي يمكن أن تتجلى في التاريخ والحكايات والأمثال والملامح الشعبية والتصوف الإسلامي.
  2. المرحلة الثانية: حاول فيها البحث عن نظرية فكرية وجمالية، ودرامية على ضوئها يمكن تأسيس الكتابة، وإيجاد للصناعة المسرحية العربية مناهجها في الخلق والإبداع.
  3. المرحلة الثالثة: وهي المرحلة التي عمد إليها برشيد إلى البحث عن شكل مسرحي في روي عربي وذلك من خلال مساءلة الحفل العربي، كما في غاية الإشارات، فعبد الكريم برشيد قد انطلق من البداية وليس من النهاية ومن العام المشترك وليس من الخاص الموقوف من داخل إلى هنا، والآن وليس من خارجها، ومن النظر إلى المسرح بعين عذراء مغايرة وليس بالعين المستقطبة، من الذهن المتحرر الخلاق، وليس من الذهن المستهلك، من تجاوز الوقوف عندما هو كائن إلى تصور ما هو ممكن ومحتملا2 من الافتراض النظري قصد الوصول إلى ما هو يقيني3من معرفة الخلية الأساسية للمسرح وليس من المسرح4.

والمسرح في رأي عبد الكريم برشيد ليس شيئا تام الخلق، لأنه بالأساس مجرد تخطيط ومشروع، إنه ورش يقوم على أساس التجريب الميداني وعلى التطور الإبداعي، وذلك من حيث الممارسة والتنظير والاعتقاد إنه موعد عام، موعد يجمع في مكان واحد وزمن واحد بين فئات مختلفة ومتباينة بين الناس، موعد يتم انطلاقا من وجود قاسم مشترك يوجد بين الناس ويجمعهم داخل فضاء وزمان موحد، هذا القاسم المشترك لا يمكنه أن يتجسم إلا داخل إحساس جماعي أو قضية جماعية عامة، قضية تهم الجميع، وتعنى كل الفئات المختلفة، ومن هنا كانت أهمية هذا الموعد تقوم أساسا على اتساع هذه القضايا ومدى رحابتها وشموليتها، ولما كانت هذه الأهمية تقوم على هذا الأساس، فقد كان من الطبيعي أن يعبر عنها – أي القضايا- بطرق مختلفة تجسدت في لغة أوسع وأشمل وأعمق من لغة اللفظ واللحن والإرشادات والحركات وهي لغة جماعية تقوم على المشاركة الوجدانية والفعلية كالتعبير الذي تتميز به المظاهرات الشعبية والإضرابات وبهذا يكون المسرح تظاهرة شعبية عامة، ولأنه كذلك، فلا يمكن أن يفصل عن الواقع اليومي لجعله مجرد حلم أو وهم، إن المسرح واقع حياتي بالأساس، ولكنه واقع مكثف وأكثر شفافية وصدقا من الواقع اليومي، إنه واقع نلبسه الأقنعة المسرحية لنخلع عن الواقع الحقيقي، أقنعته التي يختفي تحتها، وإذا كنا يوميا لا نرى من واقعنا غير ظواهر الأشياء وقشورها، فإن الأمر بالنسبة للمسرح يختلف، ذلك لأننا في بواطن الأشياء وجوهرها الحقيقي، ومن هنا فإن المسرح الاحتفالي5 يقوم على أساس التغطية، إن المجتمع بكل ما يحمل من أخلاقيات وتناقضات وقوانين سماوية أو وضعية، وما يحمله من تضارب المصالح والمنافع وارتباطها بالأفراد والهيئات والمؤسسات كل ذلك أسقطه في ارتداء أقنعة الزيف، الشيء الذي جعل للواقع أكثر من وجه، وأكثر من قناع وأكثر من حقيقة واحدة6.

  • ولما كان المسرح مسرحا شعبيا بالأساس، ولما كان التراث بكل ما يحمله من تنوع وخصب – يمثل ذاكرة الشعب، فقد كان لابد أن يكون له مكان مهم في إبداعنا المسرحي، إن المسرح كما رأيناه لغة، ولا يمكن أن تحدث شعبا إلا من خلال لغته، هذه اللغة التي تختزن عقليته وروحه وتطوراته، هذه أشياء لا يمكن التوصل إليها إلا من خلال دراسة التراث العربي، هذا التراث الذي هو بالأساس وليد شرعي للوجدان الشعبي، ومعرفة هذا الأخير لا يمكن أن تكون غاية أبدا، ذلك لأن المهم ليس هو التفسير ولكن التغيير، التغيير الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بتحقق شرطها الأساسي، الذي يتمثل في معرفة قوانين هذا الوجدان وإدراك طبيعته وخلفياته، ومتى أدركت هذه القوانين سهل تغيير العقلية العربية من الداخل لا من الخارج كما هو حاصل، ولما كان أيضا – المسرح – مؤسسة شعبية مؤسسة يمتلك فيها الشعب وسائل الإنتاج عمليا ونظريا، فقد كان لابد أن يعوض الإيمان بالمبادئ، الإيمان بالنظريات والمذاهب، لأن الأول تأسيسا للوحدة والثاني تدميرا لها، كما أنه وهو وجدان الشعب وضميره وصوته لا يمكن اعتباره مجرد مؤسسة إعلامية مؤسسة تقوم على أساس نشر – فكر – الدولة أو مبادئ الحزب الحاكم أو التعارض، ذلك لأن المسرح ليس وسيلة إعلامية، وسيلة يمكن أن توظف الصحافة والإذاعة والتلفزة، وإلا ظل المبدع يعيش الاغتراب والاستلاب، كما لا يمكن اعتباره مؤسسة تجارية أو صناعية، أي أن يكون قائما بالأساس على المال والعمل والاستهلاك والإنتاج والسوق والإشهار، وإلا أصبح المبدع عاملا ينتج لا نحسب ما تمليه عليه قضايا الواقع ولكن استجابة لمتطلبات السوق، ولو كان في ذلك خذمة وتكريس للذوق الفاسد.

ولما كان المسرح الدرامي هو مسرح يحاكي الفعل الإنساني، أي أنه يحيي ما كان كما كان، وأن المسرح الملحمي هو مسرح يروي الفعل الإنساني، أي أنه يحكي ما هو كائن أو ما كان، فإن المسرح الاحتفالي هو مسرح يعمل على إحياء فعل ما، إنه يخلق تظاهرة آنية، تظاهرة تتم في حضور الجميع وبمشاركة الجميع ولما كان المسرح الأول يحيي حدثا وقع في الماضي ولم يعد له وجود الشيء الذي يحول العملية المسرحية إلى جلسة لتحضير الأرواح والأشباح، وأن المسرح الثاني يحكي عن شيء وقع بعيدا عن الجمهور، الشيء الذي يحول الفعل المسرحي إلى مجرد حكاية تبقى غريبة عنا وعن واقعنا واهتمامنا، مما يجعلها في ختام الأمر ومهما تكن رموزها ودلالاتها وإيحاءاتها تبقى مجرد حكاية فقط، أما المسرح الاحتفالي فيقوم على أساس رفع الحواجز والمسافات بين الواقع والوهم، ومن هنا كان لابد لهذا المسرح في المنظور الاحتفالي ألا يقوم على الأبعاد البريختي، وذلك لأن الأبعاد كما نعرف – قائم بالأساس على الفصل بين مستويات الواقع7 ولما كان الاندماج الاحتفالي ليس عملية سخرية معقدة، عملية يمكن أن تحتاج إلى طقوس وستائر، كما يمكن أن تختفي قوانين اللعبة وأسرارها، فقد كان لابد أن يكون المسرح الاحتفالي مسرحا مفتوحا، فلا ستائر ولا حواجز ولا دقات تقليدية، كل شيء يركب أمام الجمهور وبمشاركته، إن الاندماج عملية لا تتم في الكواليس – لأن الكواليس لا وجود لها في هذا المسرح – وإنما في حضرة الجمهور وأن الدور مثله مثل اللباس – يمكن أن يلبس أمام أعين الكل ومن هنا دعت الضرورة إلى تحديد علاقة الممثل بالزمن، هذا التحديد الذي يقوم على مبادئ جديدة بعيدة عن التصور الدرامي أو الملحمي8 ولما كان الفعل المسرحي يقوم على الآلية في بعض المسارح وذلك لارتباطه بالذاكرة وبما تختزنه من حقائق جامدة وثابتة فإنه في المسرح الاحتفالي يبتعد عنها – الآلية – وذلك عن طريق إدخال عنصر المصادفة والمفاجأة ليصبح هذا الفعل احتفالا حيا ومباشرا.

إن المسرح فن بالأساس يترجم الحياة بكل ائتلافاتها، وأن معرفة الفن المسرحي لا يمكن أن ينفصل أبدا عن معرفة الحياة ككل، كما أنه إطلالة على الوجود الإنساني، وأن كل إطلالة لابد أن تتم من زوايا محددة ومعينة9، ومن خلال هذه الزوايا يمكن أن تلمس غنى هذا الفن، لكن ليس بدايته، وإنما بروافده التي تصب فيه، هذه الروافد الفكرية والفنية هي التي يجب الوقوف عندها طويلا، لأنها تشكل الحجر الأساسي الذي ينبني عليه المسرح.

ولما كان المسرح التقليدي يجعل المتفرج دائخا بين عالمين – الخشبة والصالة – متوازيين لا يلتقيان نظرا للمسافات الزمانية والمكانية الكبيرة التي تفصل بينهما، فإن المسرح الاحتفالي عوض ذلك بالعالم الواحد، الذي هو الفضاء الذي نعيش بداخله، وزمن واحد هو (الآن) ومكان واحد هو (هنا) لأنه يعتبر ما يشاهد شيئا لا يمكن فصله عنا، إنه صورتنا كما تظهر في المرآة، وهل يعقل أن يتفرج الإنسان على حياته من غير أن يفعل أي شيء؟

ومن  هنا تنبع ضرورة القول بمعايشة الإبداع وذلك عوض (التفرج على الإبداع) ولهذا فهو يريد من المبدع أن لا يخون نفسه وعصره بهذه الطريقة أو تلك لأن الشيء الأساسي في المسرح ليس هو أن نفهم فقط – لأن الإبداع الفني ليس درسا – فالمهم هو أن تعيش – بكل حواسيك – تجربة، تعيشها عقليا ونفسا وروحيا.

ولما كان المسرح – وهو في جوهره لغة شاملة قد أصبح منفيا في الكلمة، والكلمة وحدها، فإنه بهذا يكون قد خسر المسرح، لأنه فرط في الجوهر والأساس، أي في شمولية اللغة وارتبط باللفظ وهذا خطأ، كما ارتبط بالمكان الذي يسمى المسرح، مع أنه في حقيقته أوسع وأرحب من أن تجده جدران، كما أن قضاياه أيضا، أعقد وأكبر من أن تعبر عنها لغة واحدة هي لغة اللفظ وحده، إن المسرح وهو الحياة – في اتساعها وعظمتها – لا يمكن أن يكون إلا شاملا وغنيا ومركبا وغامضا مثلها تماما إن المسيحية ليست هي الكنيسة، كما أن الإيلام ليس هو المسجد، لذلك نقول بأن المسرح – الفن – ليس هو المسرح – البناية10.

وبما أن المسرح لا ينفل عما حوله، وأنه في جوهره اختزال واختار لكل الوجود، الظاهر منه والخفي، الحقيقي والوهمي، فقد كان من الطبيعي أن يتم التركيز فيه على الفعل والكلمة، لأن الكلمة غالبا ما تقف عند حد الوصف، وصف عوالم، لكن المسرح – كفعل – يدخل بك إلى الوهمي والحلقي والماورائي والذي يميز المسرح الاحتفالي عن غيره من المسارح الأخرى هو نفس الشيء أو الأشياء التي تميز الحياة عن الموت، فالسمة الأساسية في هذا المسرح هو أنه فن يتحرك ويمشي ويتأثر بلحظة الاحتفال ويؤثر فيها، ويعبر ويحاور، ويتجدد الزمن والمناخ والطقس والظروف، فهو يتحدث عن الفعل بالفعل ويترجم الحدث بالحدث، ويشخص الحياة بالحياة، وبهذا كان في جوهره فعلا داخل فعل وحياة داخل حياة، وأحداثا داخل أحداث الشيء الذي يجعله أكثر تركيبية من الواقع الواقعي وأكثر حقيقة منه.

إن المسرح ليس فرجة، وإنما هو بالأساس لقاء، من هنا تبدأ الاحتفالية لقاء تكون فيه – في ذات الوقت أقطاب اللقاء وموضوعه أيضا، ولما كان المسرح في جوهره لقاء، فقد كان لابد لهذا اللقاء كان لقاء أن يتواجد داخل فضاء مكاني معين، وطبيعة الفضاء وهندسته شيئان لا يمكن أن يكونا إلا استجابة لطبيعة هذا اللقاء11.

إن المسرح وإن كان في شكله الخارجي ميدانا للأشخاص، فهو في جوهره فضاء للمعاني12.

إن المسرح هو الصيرورة، هو الكيمياء، هو الانتقال بالأشياء – من داخل هذه الأشياء وليس من خارجها- وإن أصبح خارجي يمكن أن يظهر داخل الاحتفال المسرحي لابد وأن يكون يحول المسرح من فعل حي وتلقائي وصادق إلى مجرد مسرح آلي لعرائس، مسرح له دمى وخيوط وأصابع خارجية تحرك هذه الدمى، فلا مكان في المسرح إلا للممثل، أما المؤلف والمخرج فلا وجود لهما إلا خارج الفعل المسرحي، ويقول عبد الكريم برشيد: “إن المسرح – كعالم حسي – منفصل تماما، ساعة الاحتفال عن ميتافيزيقيا المسرح”13.

إن المسرح الاحتفالي لا ينسخ الواقع الطبيعي، ولكنه يركب واقعا مسرحيا جديدا، هذا الواقع الجديد هو بالأساس واقع مركب – بشكل كيميائي دقيق – يعتمد هذا التركيب – في كلياته وجزئياته – على المزج بين الأجواء المختلفة، مزج الواقع بالحلم، وإغراق الحقيقي في الأسطورة، وإدخال الوهمي في صلب اليومي والخلط بين التمثيل واللاتمثيل14.

المسرح الاحتفالي هو الفرع والتجلي، إنه فعالية فكرية وفنية تستند إلى التصور الاحتفالي، هذا التصور الذي يحاول الاحتفاليون تشكيله داخل منظومة مترابطة بذلك فلسفة15.

إن المسرح الاحتفالي – كنظرة أو جماعة أو مؤسسة – لا يمكن أن ينغلق على المسرحيين وحدهم وذلك لأن المسرح في حقيقته ليس جنسا من الفنون، كما أنه ليس علما وإنما هو كل العلوم وكل الفكر الإنساني في عموميته وشموليته، ومن هنا فلا مجال لصناعة المسرح بدون الانفتاح على التشكيليين والشعراء والزجالين والفلاسفة والباحثين في علم النفس والاجتماع واللغة، إن المسرح فن يشمل كل الفنون وعلم يتمثل كل العلوم، وصناعة تستوعب كل الصناعات الأخرى، ولما كان المسرح هو الحياة، في صورتها المركزة والمكثفة والحقيقية، فقد كان من الصعب حصره في المسرحيين16.

المسرح هو هذا العالم الذي نصنعه / نحن / الآن / هنا / عالم جديد مغاير، يحمل أنفاسنا وأحلامنا وبصماتنا، إنه العالم المتحرر من الجبرية والصدفة والفوضوية والميتافيزيقيا… إنه الواقع في صورته المركبة والمكثفة17.

إن المسرح حقا حرفة، حرفة لها أصولها وشروطها وتقنياتها المختلفة، ولكنها قبل ذلك فن، لأن الأساس في المسرح هو (ماذا القول؟) وذلك قبل الحديث (عن كيف هو الخطاب) في المقام الأول وعندما يكون الخطاب.

أشكال التواصل عند عبد الكريم برشيد:

لا يخفى على أحد منا أن للتواصل أشكال متعددة لكن الأشكال الرئيسة للتواصل يمكن حصرها في شكلين أساسيين هما: تواصل أحادي الاتجاه وهو الأكثر ممارسة خصوصا في حياتنا اليومية، أي نستعمل فيها هذا النوع في كل وقت وحين، أما الشكل الثاني من التواصل فهو يعتمد على تعدد المرسلين والمتلقين، حي يعتمد بالأساس على السجال والحوار الذي يأخذ طابع الأسئلة والأجوبة وهو ما عبرنا عنه من خلال التقسيم التالي:

يتخذ التواصل أحد الشكلين التاليين:

  1. تواصل أحادي الاتجاه: ويتم بين المرسل والمتلقي في إخبار مباشر، دون أن يتاح لهذا الأخير مجال للرد المباشر أو التفاعل عن طريق التساؤل والحوار المتبادل، ويتمثل هذا النوع الموجه من الخطاب في حالة العرض أو المحاضرة، أو عند تلقي البرامج الإذاعية والمتلفزة، الموجه للمستمعين والمشاهدين أو عند استقبال المارة للرسائل التي تبثها الملصقات الجدارية.
  2. التواصل المتعدد الاتجاهات: يؤدي هذا النوع من التواصل إلى إحداث تفاعل متبادل بين المرسل والمتلقي ويتم ذلك إما بشكل عمودي (تفاعل بين المرسل والمستقبل) أو بشكل أفقي (تفاعل بين المتلقين أنفسهم والمرسل).

ويتم هذا التفاعل من خلال ممارسات وتقنيات يمكن أن تتخذ شكل حوار درامي أو كتابة وأسئلة وأجوبة، ومناقشات داخل مجموعات، عمليات التعليم والتعلم القائمة على الاعتماد والاستكشاف والتحفيز، لذا يعمل برشيد بتكسير الرثاية لكي يأخذ التواصل أنماطا متعددة، تختلف وفقا لهدف التواصل، وللوسائط المستخدمة، وحجم الأشخاص ونوعيتهم الذين يؤلفون العناصر الموصلة، ولطبيعة الموقف التواصلي، وغير ذلك منم تعدد متغيرات العملية التواصلية، ومع هذا يمكننا أن نحدد بعض أنماط التواصل، وفق الكتابة الركحية، فالتواصل لا يعني الحوار، بل الانخراط في اللعبة الدرامية لإدراك الفرد لذاته ولعلاقته بالعالم المحيط به، ووعيه بخصاله وقدراته وحدوده، وبجوانب قوته وضعفه، وبما قد يعوق انطلاق طاقاته، ولاشك أن حسن اتصال الفرد مع نفسه يجعله أقدر على توظيف إمكاناته توظيفا كاملا (Jully functioning)، الأمر الذي يضمن بدرجة كبيرة السواء لشخصيته والفاعلية لأسلوب حياة هذه الشخصية الممسرحة، فالمتخيل عنده عتبة عليا التي من خلالاها ندرك تفاصيل الكتابة الدرامية التي تعمل بربط إدراك الفرد لذاته ارتباطا وثيقا بإدراكه للآخرين، وبالتالي فإن اتصال الفرد بالآخرين ونظام علاقاته بهم يتحدد بهذا المنظور الفينومينولوجي للاتصال كما يتحدد أيضا بالواقع الاجتماعي للأفراد، فهذا الاتصال بين الفرد والآخرين ينمو عند الممثل من خلال العلاقات الاتصالية والأدوار المتبادلة بين الأعضاء كوحدة اجتماعية، ويأخذ هذا النمط الاتصالي من التطور عند الفرد أدواره الاجتماعية، ويعني ذلك أن العملية الاتصالية تتطور وتتحقق في سياق الأدوار التي يقوم بها الفرد في البداية وفي النهاية.

وختاما فالحقائق البارزة في سيكولوجية الاتصال الدرامي، والتي يعنى بها علم النفس الاجتماعي، تبك الحقيقة بأن الاتصال يعمل كأساس للعلاقات الاجتماعية بكل أنواعه، فالاتصال هو بمثابة المتخيل الذي يربط الناس مع بعضها في أنظمة اجتماعية أو ما شابه ذلك، ويذهب “كاتزوكان” إلى أنه يمكن النظر إلى الأنظمة الاجتماعية على أنها شبكات مفيدة من الاتصال، وهي مقيدة من حيث أن تدفق المعلومات من وحدة اجتماعية إلى وحدة أخرى داخل النظام يجري تركيزه وتوجيهه لتنقية المعلومات من البيانات غير المتعلقة، التي قد تدخل مع الرسالة الجاري نقلها والواقع أن الجماعات الاجتماعية تصبح أنظمة اجتماعية فعالة بواسطة الاتصال، كما أن محاولات الاتصال تؤدي إلى تكوين الجماعات، فالجماعات توجد بفضل التفاعل الذي يتواتر بين أعضائها، ويتحدد الاتصال بين الجماعات وما يمكن أن يقوم بينها من علاقات وأدوار متبادلة، ويبقى عبد الكريم كطود عظيم يسكب الخير للمسرح، ويرفض كل تجربة على تستند على المبادئ الإبداعية والتنظيرية ومهما يكن من أمر، فموضوع رسالتي “المتخيل المسرحي واشتغالاته الفكرية والفنية”، فقد كان من الطبيعي أن نسأل كل الفكري والفني والمقدس والخيالي دون استحضار “الشخصيتين” لكي يبقى العنوان مفتوحا وغير مختوم، قصد تناول الكتابات المسرحية وتقريب القارئ من هذا المفهوم الغريب الذي هو “المتخيل” لكي تستقيم مع شروط البحث الأكاديمي، ومع التصورات والصناعات، والسؤال فبأي مقياس نعتبر أن المتخيل الرامي قد حقق رسالته التمسرحية؟ وهل القارئ العربي أو المغربي فهم هذا اللغز؟ أو المصطلح الدراما، وهل الكوميديا تحمل بدور الدرامية؟ فهذه الأسئلة بصفة خاصة تبقى نمطية حول الإبداع والتنظير لكننا إذا خرجنا بها عن هذا الإطار فإننا نجدها تدور حول الصناعة الفرجوية انطلاقا من النصوص وليس من خارجها قصد التحلل من ثقافة المركز الآخر18.

ولقد حاول توشيح هذا العجز والتقدم بالبديل قصد التحلل منه، لأن الثقافة العربية ومن ضمنها المسرح هي ثقافة للامركز، إنها تتحرك وتنمو ولكن انطلاقا من أية نقطة؟ وبحث عن أية فرجة؟ إن الكتابة البرشيدية أكدت ذاتها، كذات مستقلة لها مركزها وهي في حقيقها لا تعيش وتحيا ولكن نقلد الحياة لا نفكر ولكننا كما يعلن أن نلعب لعبة القائمة على التأسيس والاستيعاب المسرحي والفني قبل الانهيار، ومهما يكن من أمر، فإشكالية المتخيل المسرحي وآلياته هو الذي دفعني إلى البحث عن هذه الذات التي تتحرك من خارجها، وليس من داخلها حي، أو حقيقي وذاتي، إن المسرح المغربي لم يكن له وجود هكذا حكوا في المركز، وهكذا رددنا بعدهم مسرحنا هو ما قبل الاكتشافات ما قبل الدراما، لكن المسرح العربي مع هذه الشخصية أصبح مستقلا19، ومعطى وجودي له مقوماته وملحقاته موجود بوجود الإنسان العربي، إذ بواسطة الإنسان يعيد هيكلة المسرح حتى يكون قادرا على التاريخ للوجدان العربي، ومهما يكن من أمر فالتحليل للمتخيل العربي وطقوسه يعيد للثقافة المسرحية وجودها وحقيقتها، لأن المفاهيم تحتاج إلى رؤية جديدة، وإلى قراءة مغايرة، فالخروج من دائرة الانهيار والتسلية البسيطة التي تعتمد على الصورة والصوت، هو ما يمكننا أن يحرر هذه الرؤية لصناعة الفرجة بكل مقوماتها البصرية والتشكيلية، والسمعية والموسيقية والتلقي، ولاشيء مقدس وخالد في ذاته ويبقى أن المرجع الأساسي في العملية النقدية هي خلخلة كل المتخيل واشتغالاته الطقوسية والأسطورية وبهذا نرى برشيد عبارة عن هذا الصخر السزيفي، بعدما حمله معي في هذه الرحلة الأولى نظرا لتجربته واتساع مداركه لكل طالب وباحث يدعو لانتصار الحياة، وضد كل وباء وتكرار وصدى وموت.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *