بقلم الاستاذ : حميد طولست
إن الأندلس التي إعتدت زيارتها كلما سنحت الفرصة ، ليس لأنها وجهة سياحية فقط، بل لأنها مرآة تُرينا وجهًا من حضارة كنا قد فقدناه؛ ووجهًا عقلانيًا، منفتحًا، إنسانيًا استطاع الغرب، رغم اختلاف العقيدة، تقدير روحه وأحياه في مشروعه الحضاري. بعد أن أقصى العالم الإسلامي فلسفته وأغلق فيه باب الاجتهاد، أهم جناحي طيران النهضة والحضارة ، التي لا تكون استعادتها بالتغني بالأمجاد، بل بإحياء منهج التفكير النقدي، والاعتراف بأن الدين والعقل ليسا خصمين.
والدي حين تتجول في مدن الأندلس، من قرطبة إلى غرناطة، مرورًا بإشبيلية وطليطلة، لا ترى فقط آثار حضارة عريقة في العمارة والزخرفة، بل تقرأ في كل حجر وصدى اسم، قصة حضارة عقلانية نُبذت من أهلها واحتفى بها الآخر. حضارة قدمت للعالم شخصيات مثل ابن رشد، ابن باجة، ابن طفيل، الفارابي، الكندي، وابن سينا، لكنها قوبلت بالتكفير والاضطهاد داخل العالم الإسلامي، بينما تُرجمت أعمالهم إلى اللاتينية، وشكلت ركيزة لعصر النهضة في أوروبا.
ففي مسجد قرطبة الكبير، لا ترى فقط فن العمارة الإسلامية، بل تجد ما هو أعمق: روح العلم والفلسفة التي احتضنتها هذه المدينة، التي كانت مقرًا لمدرسة عقلانية مثل مدرسة ابن رشد، حيث سعى للتوفيق بين الدين والعقل. مكتبة الحكم الثانية في قرطبة، التي كانت تضم مئات الآلاف من الكتب، هي شهادة أخرى على تقدير العقل والمعرفة، في وقت كانت فيه أوروبا ترزح تحت ظلام الجهل.
وفي طليطلة، بعد سقوطها بيد المسيحيين، لم تُحرق الكتب الإسلامية، بل تُرجمت، بفضل “مدرسة المترجمين في طليطلة”، التي نقلت علوم الفلسفة والطب والفلك إلى اللاتينية. هنا بدأت أوروبا تتعرف على أرسطو مجددًا عبر شروح ابن رشد، وعلى الطب من خلال ابن سينا، وعلى المنطق من الكندي.
بينما انطلقت أوروبا في نهضتها مستفيدة من هذه الترجمات، انكمش الفكر الإسلامي، وأُقصي الفلاسفة لصالح النقل الحرفي للنصوص دون تأمل أو نقد. فابن رشد، الذي دافع عن “حق العقل” في تفسير النصوص، كُفِّر ونُفي وأُحرقت كتبه في الأندلس، بينما أصبحت مؤلفاته مرجعًا لرجال دين مسيحيين أمثال توما الأكويني، الذي وصفه بـ”الشارح الأكبر لأرسطو”.
لقد قال ابن رشد في عبارته الشهيرة: “أكبر عدو للإسلام، جاهل يكفر الناس”. وهي مقولة تلخص عمق الأزمة التي عصفت بالعالم الإسلامي، حين تولى سدته الفكرية فقهاء سدّوا أبواب التأمل، وأحكموا الحصار على كل محاولة للتفكير النقدي.
لم يكن الغرب مهتمًا بالإسلام كدين بقدر ما كان مفتونًا بما أنتجه من فلسفة وعلم. من ابن سينا في الطب، إلى الفارابي في الموسيقى والمنطق، إلى ابن طفيل في روايته الفلسفية “حي بن يقظان”، التي ألهمت لاحقًا كتابات ديكارت ولوك. هؤلاء هم من تركوا أثرًا في النهضة الأوروبية، لا من نُظر إليهم كأولياء أو أئمة تقليديين فقط.
فمتى يا ترى سنستعيد ما أضعناه؟