الخطاب الملكي… حين يتكلم العقل بلغة الوطن

حميد طولست كاتب ساخر وناقد اجتماعي.

في خطابه أمام أعضاء مجلسي البرلمان يوم الجمعة 11 أكتوبر 2025، بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الجديدة، والذي جاء في لحظة مفصلية يعيش فيها المغرب تحولات اقتصادية واجتماعية دقيقة، قدّم جلالة الملك محمد السادس رؤية متكاملة صيغت في عبارات موجزة، كمقولات عقلاء وحكم فلاسفة ، لكنها مفتوحة على قراءات سياسية واجتماعية واقتصادية تمزج بين النقد البنّاء والتوجيه الواقعي، وتعيد إلى الواجهة جوهر العمل السياسي المبني على خدمة المواطن وضمان كرامته.
ما يجعل المتتبع لا يحتاج لكثرة الشرح ليدرك أن الخطاب الملكي أصبح في السنوات الأخيرة مدرسة في التبليغ السياسي والوضوح المؤسساتي. جمل قصيرة، لكنها مشبعة بالمعاني، وكلمات قليلة، لكنها تضيء طريق الفهم والتفكير في بلاغة تقوم على مبدأ بسيط: لغة الدولة يجب أن تكون واضحة في مقصدها، مباشرة في خطابها، وعميقة في دلالتها.
وقد استحضر الملك في خطابه روح الواقعية والعقل الاستراتيجي، حين دعا إلى إعادة ترتيب أولويات السياسات العمومية وضمان التقائية برامج الدولة، مؤكدًا أن المواطن لا ينتظر الوعود بل النتائج الملموسة.
ومن أبرز ما ميّز الخطاب الملكي أنه مارس النقد بمنهج الإصلاح لا الإدانة ، من خلال توجيه جلالتهه رسائل صريحة إلى من يعنيهم الأمر، من مسؤولين ومؤسسات، بأن زمن الأعذار انتهى، وأن زمن ربط المسؤولية بالمحاسبة هو الذي يجب أن يسود.
حيث لم يكن النقد الملكي غضبًا، بل جرس إنذار من موقع الحكمة والمسؤولية. إنه نقد يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس الفعالية والإنصاف، ويذكّر النخبة السياسية بأن خدمة الوطن لا تُختزل في الخطابات الانتخابية، بل في الكفاءة والنزاهة والحلول العملية وصون كرامة الإنسان.
لم يكتفِ الخطاب بتشخيص الاختلالات، بل دعا إلى اعتماد حلولا واقعية وعلمية تضع الإنسان في قلب العملية التنموية. فالتعليم، والصحة، والتشغيل، والعدالة الاجتماعية كرامة المواطن ، ليست ملفات تقنية ولا شعارات ظرفية فقط، بل ركيزة في التنمية وبناء الدولة الحديثة لا تكون شاملة إلا إذا شعر كل مواطن أن مكانه محفوظ في مسارها.ومساحات لتحقيق الكرامة الإنسانية التي هي جوهر المشروع المجتمعي المغربي.
مرة أخرى، يذكّرنا الخطاب الملكي بأن الحكمة السياسية ليست في كثرة الكلام، بل في عمق الفكرة ودقة التشخيص وصدق الإرادة.
لقد حمل الخطاب دعوة واضحة لكل الفاعلين السياسيين والإداريين إلى الانتقال من القول إلى الفعل، ومن التوصيات إلى الإنجاز، لأن الإصلاح الحقيقي يقاس بما يلمسه المواطن في واقعه اليومي.
إنها دعوة مفتوحة لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، بين المسؤول والمواطن، وبين القول والعمل.
فحين يتكلم الملك بلغة العقل والضمير، يكون الوطن مدعوًّا لأن يُصغي لا بآذانه فقط، بل بعزيمته الجماعية على التغيير والإصلاح.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *