قراءة الاتجاهات التربوية من المنظور السوسيولوجي

 

إنجاز: د الغزيوي ابو علي

 دة بن المداني ليلة  

يتناول هذا المقال نظرية المعرفة، باعتبارها الأرضية التي من خلالها نعرف ماهيتها وخصوصيتها التي تميزها عن الخصوصيات الأخرى، لأن الحديث عن السوسيلوجيا المعاصرة يطرح أمام الباحث مجموعة من القضايا والتوجهات والمسالك وأساليب الاستقراء، وفي ضوء هذا التوجه ندعو إلى تخطي كل المقاربات والمقولات القديمة المتمثلة في الثنائية الميتافيزيقية الأرسطية والمادية التشيئية والواحدية السبينوزية، باعتبارها مسلمات وفرضيات لا تتساوق مع شروط الفعل النظري الإبداعي، فالتربية لا تعتمد القصدية، بل تتسع بالطبع مع اتساع اكتساب اللغة.

وفي ظل هذا التميز يأتي التحليل المنهجي الذي يربط الواقع بالفكر دون إغفال التاريخانية التي أسهمت في توليد العديد الأطروحات الحداثية لتناقض البعد التلقيني كاختيار موضوعي يساعدنا على التحرر من سلطة المؤلف والمدرس ومن دوامة التخلف وعقدة الدونية التي لازمت التعليم منذ زمن طويل، فإبراز النظريات الجديدة استطاعت أن تتجاوز النمطية القديمة التي صاغها الذوق العربي قديما، فهذه الولادة غيرت المفاهيم وبحثت في صورة جديدة عن المتلقي لكي يفوق كل التيمات التي ألفها المبدع، والمؤلف، وهذا الإبداع خلق مسافة بين المنشط والمبدع والصانع، وبين المتلقي، فالأخير هو الشخصية المركزية في كل عمل إبداعي وحاضر في كل نمط ثقافي أو سيكولوجي، فالحضور إذن هو بمثابة تصدع في بنية النصوص المؤلفة من أجل كشف الطريق إلى الخروج من النهايات إلى الحالة الصحيحة للعقل، وجعل هذا الأخير تمردا وبرنامجا جديدا، فالبعد السوسيولوجي جعل من التربية أرضية مفتوحة قابلة أن تستوعب كل الشرائط الاجتماعية والسياسية والفكرية، فالتفكير السوسيولوجي هو الموجه الأول للعمل النظري من أجل بروز الفكر الجوهراني دون الانفكاك الحقيقي، ولا التحول عن الحاضر، لهذا يأتي أصحاب اللاعقلانية واللاتوجيهية إلى اتخاذ المجتمع خارج النظام المرجعي الذي حددته التربية المعاصرة، لذا بني المجتمع التربوي المعرفي على فكرة اللاحدود من أجل الروابط والمسافات بين الأستاذ والطالب، وهذه العلاقة هي الرابط العضوي وليس المجرد، لأن الاعتماد على الوعي المبني والتبادلي بين الوحدات التربوية والاجتماعية والنفسية يؤدي إلى توحيد الرؤى في نمط من الإنتاج الكلياني وإدراجه في الإطار المنهجي العلمي والموضوعي وليس الذاتي، وكثيرا ما اتخذ مفهوم الربط العضوي مع نقد الوظيفة التربوية بكل عناصرها البيداغوجية والديداكتيكية، حيث لا تنطوي على المسالمة، بل هي نظام بلا حدود، من هنا كانت المهمة الأولى لمنظري السوسيولوجيا حول كيفية تحديد النظام البيداغوجي الجديد داخل الأنظمة الاجتماعية، وبالنظر إلى الاهتمام بالتحول إلى الحداثة، فإن السوسيولوجي يبسط أدواته في فهم الأنظمة الرأسمالية الرمزية (بورديو) كحداثة تنتشر عبر الأقاليم التربوية المعاصرة، فهذه الصورة من حيث الجوهر هي السياسة المألوفة التي تؤدى على مسرح جغرافية المدارس والجامعات، فالبيداغوجي يرسم صورة مجتمع برغماتي تؤكده سياسة المؤسسة، والأشكال العائلية وأيضا العلاقات الخاصة وهذا ما يؤكده في كتابه السلطة والرمز، فتأطير هذا التصور لا يعد تجريدا بل هو خاضع للتصنيف وللتطور الموضوعي، بحيث يستحيل في كل الأحوال وجود حدود واسعة من النسبية، لأن التربية المعاصرة وخاصة الرقمية تشكل ثورة إبستيمية سواء في الوظيفة أو في المقصدية، لأن غالبية الباحثين لا يرون سوى قطيعة بين الفكر والواقع وهذا ما أكدته بعض الدراسات بأن المعركة الثقافية لها الأولوية في الصراع السياسي، لأن التربية الحالية في المعاهد والجامعات لا تشكل جبهة جديدة لحماية المتلقي من موجات الهدر، والغش، واللامبالاة بل تطلق عنانها للعولمة كمدرسة جديدة التي تحاول أن تصنع الإنسان كما يحلو لها، هكذا نحن لا نستطيع أن نؤسس لأنفسنا أيقونة الكفاح ضد هذا الاستغلال والاضطهاد الرمزي والرأسمالي، لأن استعارة الكينونة التربوية يثير فينا اللاتناهي كإرادة ذاتوية وكموقف عقلاني، فالتربوي لا يتخذ الموقف من البعد الزمكاني اتجاه ذاته، وإنما يقيم علاقة أفقية (الذات والموضوع) دون الشعور بالنقد الثقافي، لذا يرتبط مفهوم التربية بمفهوم الوجود المعولم إلى حد أصبح فيه السوسيولوجي تعيينا للقلق الوجودي، وهو ما نصادفه في تركيب المفهومين في الصيغة التالي (التربية البرغائية، وأيضا التفكير بالوعي الوجودي كما يرى جان بول سارتر)، فالسيرورة السوسيولوجية لا تمثل إلا عائقا أمام التحول الكينوني لأن الذات المعقلنة لا تجد إرادتها إلا في الممارسة الفصلية، فتمنحها امتدادات جدلية وتواصلية بين الفكر والواقع، كما يرى كارل ماركس، لأن الحديث عن المفاهيم بالمفهوم السوسيولوجي لا يخفي الفشل الأبدي لهذه الأنا التي ترغب أن تكون فاعلة في المجتمع العالم، لأن الإفلات من ثقل الوعي الواقعي (الشقي) هو إدراك وامتداد في اللامتناهي الذي يجعل صيغة العبور نحو التفسير والتأويل هو البديل في القدرة على ربط مشروع التغيير الماهوي وذلك بالتعبئة المعرفية والتطلعات الفردية كما هي موجود في المنهاج التربوي المعاصر، فبناء هذه التخريجات هي مهمة بنائية تمر بإبداع الوسائط التي هي وسائل ومراحل حقيقية وديمقراطية تأويلية، إذن فالمهمة تقربنا إلى السؤال التالي، فالسؤال هو الذي يعلمنا أن نفكر في أنفسنا، ومن دون أن نعني، هذا أي شكل من أشكال التلقي البسيط والمستقل عن المركب، لذا يختفي المجرد والتقليد وهذا ما يقودنا إلى التفكير من داخل الذات المحاورة كي نحصل فهم الذات من جهة البعد السوسيولوجي وأثارها في المجال التربوي، فالمهمة عسيرة ومتنوعة وربما قريبة التحقق في المعاهد كما بين ذلك في عالمنا المعاصر، حيث يحتاج هذا السؤال المركزي كما قلت هو جزء من ثقافتنا الجذرية التي تعتمد البناء المتعدد التي يتخذه البعد التربوي على المستوى السوسيولوجي دون إبراز الصراع الطبقي، بل كحقيقة نضالية تقاوم العفوية ومن اليوتوبيا، وتتقاطع مع التربية كما يرى دوركايم بأنها النشاط الذي تمارسه الأجيال الراشدة على تلك التي لم تنضج بعد للحياة الاجتماعية، وموضوعها هو إحداث عدد معين من الحالات الجسمية والعقلية والأخلاقية لدى الطفل، يتطلبها من المجتمع السياسي في مجموعه والمحيط الاجتماعي الذي هو موجه إليه بالخصوص (مقدمة في علوم التربية) باريس 1984 ص9، وانطلاقا من هذا الطرح الدوركايمي نستخلص بأن التربية هي إحداث عدد معين من الحالات الجسمية والعقلية والأخلاقية وهذه الأطروحة مغايرة لرؤية السيكولوجي فهي تعني عنده مجموعة خاصة ومرتبطة بعمليات التغيير المنظم في الذات، غايتها هي التنمية المتكاملة والمتوازنة، ويشترط هذا التنظير العديد من الأسئلة والأدوات المنهجية والنماذج التحليلية باعتبارها من مستلزمات القراءة السوسيولوجية الأساسية، وهذا الإقرار النموذجي الدوركايمي هو بمثابة إعادة النظر في مقومات الجنس التربوي الكلاسيكي السياسي، مما يقود بالسوسيولوجي بتشكيل العائق أمام كل التصورات اليقينية والطبيعية والطوباوية، مما أصبح الطالب مدجنا وفاقدا للأفاق والتاريخ، وينزع بطبعه إلى ملازمة حالته والاستمرار فيها ولا يتطلع إلى وضع أسمى كما يقول عبد الله العروي (المعرفة السوسيولوجية) عبد الكريم غريب ص107، فالتربوي يحاول دوما أن يؤثث عالمه بما فيه الكفاية بمصطلحي المطلق والنسبي، اللذان قدمهما لكي يقربنا من قولة اوغوست كانط “بأن ليس هناك إلا حكمة مطلقة وهي أنه لا وجود للمطلق،

Il n’y a qu’une maxime absolue, c’est qu’il n’y a rien absolu”، المتمثل عند جان جاك روسو وهيجل ونيتشه وجون ستيوارت هيل وغيرهم، تلك التجليات التي أضفت على البعد التربوي طابعا مثاليا دون ربطهما بالتحولات السوسيوتاريخية، لكن مع عصر التنوير حاول دوركايم أن يربط هذا المفهوم بالفعل الاجتماعي وذلك وفق أهداف محدد ومعينة، ومن ثم اعتبرها واقعة اجتماعية مستقلة عن الأفراد، وبالتالي فهي قابلة للمساءلة العلمية والموضوعية، لكن هذه الأطروحة لا تستقيم مع التصورات الاجتماعية نظرا لارتباطهما بالبعد الأخلاقي العقلاني المبنيين على إنسانية الإنسان، وبالرغم من هذه الثورة الإصلاحية التربوية فإن دوركايم لم يخرج التيار الأخلاقي والإنساني، لكن مع شارل جيد وجورج كاونتز وكارل مانهايم وبيرنشتاين وبيير بورديو وغيرهم من المنظرين الاجتماعيين التربويين، فإذا أخذنا ابعد الماركسي فإننا واجدون حركة المجتمع والتاريخ والسياسة والاقتصاد، حيث تعتبر هذه المفاهيم كحركة دينامية ملموسة في صناعة المجتمع التربوي، ويقول كوفالسون في هذا المقام <<يمثل المجتمع نظاما من الظواهر والعلاقات الاجتماعية في بعدها العضوي وتفاعلها على أساس أسلوب الإنتاج بكل قوانينه>> المادية التاريخية تر إلياس شاهين ط2 – دار التقدم موسكو 1976 ص48، وهذه الرؤية تقدم لنا ممارسة بيداغوجية جدلية تتراوح بين البعد النظري والبعد العملي لبناء كفايات منشودة مفكر فيها بشكل عميق، حيث يجعل من هذا الإنتاج وضعيات مختلفة لكي يحصل على الوجه الأكمل، إذ أن الاستراتيجية التي تيسر عملية التعلم تتطلب تخفيض البعد النفسي عندما يتعلق الأمر بالقصد البيداغوجي، حيث يصبح مشكلا يستدعي من السوسيولوجي البحث عن العوامل والأسباب المرتبطة بالفرد والجماعة، ودون نسيان كل المقاربات الشكرونية التي تقدم لنا الروح العلمية التربوية.

فالتصور الماركسي بأن التربية هي بناء فوقي يعكس كل القوى الاقتصادية والاجتماعية كما يقول جاك مارك في كتابه “فكر غرامشي السياسي” تر جورج طرابشي دار الطليعة بيروت 1975 ص34، فالجامعة والمؤسسات التربوية الأخرى تعيد بناء الترابية الهرمية للنظام المهيمن، ومنها الجامعة والمدرسة فهي تقوم بتنفيذ مختلف أشكال الهيمنة وتوزيع الرأسمال الرمزي حسب بورديو، في كتابه (الرمز والسلطة) ص69، وهذه الإعادة للإنتاج وشروطه المنطقي يقربنا إلى الرؤية الميكانيكية الموجودة  بين التربية كبنية فوقية وبين النظام الاجتماعي كبعد جدلي يتم فيها تبادل التأثير والتأثر الفعلي، وهذا ما يدعمه الاتجاه الماركسي البنيوي الذي يؤكد على التعددية المنهجية والرؤيوية وهذا ما يسميه لويس ألتوسير بالتحديد اللاأحادي، إذن فالمدرسة تعتبر بناء فوقيا دون إلغاء الشروط الاجتماعية التي تنتمي إليها ويقول أحد الباحثين <<إن كل ما له طابع مؤسساتي يتميز بحكم نوعية وتميز القوانين المؤسسة لتنظيمه، بهامش تحرري معين أي يتوفر على شروط الاشتغال الداخلي الخاص بشكل شبه مستقل عن المجال الاجتماعي العام الذي ينتمي إليه وهذا ما يؤكده بالفعل السوسيولوجي للمؤسسة الاجتماعية بشكل عام>> الدراسات النفسية والتربوية ع12 – 1991ص50، إذن يتضح من خلال هذا المعطى التحديثي أنه لم يكن بريئا، بل محملا بمجموعة من الأسئلة التي تحاول أن تختزل الواقع وتحويله إلى علاقات مجردة صورية، لتشكل ثنائيات بين مرحلتي التلقين والتحديث، الرأسمالية والاشتراكية، فهذه الثنائيات لا تعتمد إلا على إبراز الهيمنة التي أدت إلى إفقار وتخلف في الوقت الراهن بآليات جديدة تجري إعادة إنتاجها، نجيب امعمري، التنمية والتغير الاجتماعي منشورات كلية الآداب ظهر المهراز ط1 – 2015 ص38، وهذا التصور الإيديولوجي والاجتماعي هو بمثابة مغامرة منهجية تحيلنا على المفاهيم الماركسية دون ترك مسافة للتاريخ لكي يتحدث عن نفسه، وهذا ما سيولدنا تيارا بنيويا وظيفيا الذي يهدف إلى توظيف التيارات الإنسانية لخدمة الاتجاهات التربوية، ولقد عمل هذا التيار بإقامة جسور طبقية إنتاجية للحفاظ على المبادرة الفردية والتعريف به، وهذا الأخير كما يرى بارسونز لا يعتمد الوعي النقدي، بل يعيد تنفيذ كل الترسبات الطبقية المهيمنة دون مراجعة نقدية أو تحليلية، لذا يبقى الفرد في هذا الاتجاه محاصر من طرف أركان الهيمنة لأنه لا يملك أية وسيلة من أجل مناهضة هذا العالم كما يرى فوكو في كتابه (نظام الخطاب) ص29، لأن البنية قد حددت من طرف مجموعة تيل كيل منذ 1968 (الثورة الطلابية) بفرنسا حيث أدى إلى تغيير المناهج والبحوث التربوية كما يرى رولان بارت وتودوروف وبياجي، وقد ساهمت هذه النظرية السوسيولوجية التربوية في بلورة عدة مناهج تعليمية قصد تأهيلها للأدوار المنتظرة حسب حاجات النظام الاجتماعي، فالاتجاهات التربوية كما قلت في عدة مناسبات قدمت لنا رؤية مفتوحة قابلة أن تستوعب ما هو إنساني، وهذه الرؤية تتكافأ فيها الفرص الثقافية والاجتماعية والنفسية، غير أن هذه النزعات المعرفية والثقافية أخرجت المتعلم من دور التلقي إلى دور الممارسة والمشاركة والتجريب كبعد جديد في عملية التعليمية التعلمية، وهذه الإبداعات هي عصارة الخبرة الإنسانية في مجال العلوم المتنوعة كما يقول إدغارفور، فالانخراط في هذه الرؤية الإبداعية الفاعلة تجعل فعل الكتابة مصحوبة بسلوكيات التي ينتجها المتعلم بكيفية لا إرادية، حيث أن المتعلم دوما يغوص وجودة ليبلور منهجه الدراسي ضمن اتجاه نقدي الذي ينطلق من تقنيات غير مفصولة وغير معزوله، حيث يمتلك رؤية للعالم ضمن رؤيات أخرى، تتغذى من فضاءات ثقافية وحضارية عامة، ينطوي على مختلف التيارات التربوية والمذاهب الثقافية التي يفرزها المتعلم، لأن كل رؤية متماسكة للعالم المتخيل، والمصور والممثل نعرف كيف نضبط استفادتنا من العلوم والعلوم الإنسانية والفلسفية والأدبية، إذن تلك القاعدة التي تؤطرها التقنيات الجديدة خلال تطورها وتجاوزها لما هو تلقيني واحد غير متعدد، فالمتعلم ينبغي أن ينطلق من ذاتيته لإبداع دينامية جماعية، تؤهله لكي يكون فاعلا ومصلحا اجتماعيا، لأن المنطق التربوي والمعرفة السوسيولوجية تفرضها الروح العملية الجماعية التي دعا إليها المربي والسوسيولوجي، وهي عبارة عن روح تضامنية وأخلاقية ومعرفية ينبغي أن يتشبع بها المتعلم ليتمكن من الاقتصاد في الأحكام والمبادئ وتحري الموضوعية وتقصي التفاصيل وبناء الحكم على معلومات مسايرة لتطور المجتمع، لذا جعلته روح التعاون والمشاركة يستخرج منه خصائص عامة تفرده ومعرفته العميقة بالدرس وبالكتابة وبالمذاهب، فلا يتسرع في إصدار الأحكام بل يعتمد على الملاحظات والمظاهر العامة وأيضا يعتمد الدقة والتفاصيل مدركا أنه البعد التربوي هو لغة وفن وسلوك وأخلاق ومواطنة وتشكيل بصري وسمعي، وإدراك شامل للشكل والمضمون، وتجاوز للمصطلحات العامة من أجل الاندماج في العشق المرتبط  بسلطة الحرية كما يرى محمد منذور في كتابه “النقد والنقاد المعاصرون” ص94، فالمتعلم عبر أسئلته يحتل مكانة كبيرة في التربية وعلم الاجتماع، وعلم النفس باعتباره تنويعات في الأداء والتوظيف والمعرفة، لذا فإن الممارسة التعلمية لا تتأسس إلا بالتغيرات الذاتية والسلوكية والمعرفية والفكرية والذكائية، حيث فرضت نفسها كمحطات جوهرية بدءا بالسلوكية ومرورا بالجشطالتية وبالبنيوية وأخيرا الوظيفية والتوليدية (الكفاية) والمقصدية أو التداولية فهي نظريات فرضت أسئلة واختبارات ونتائج وخطاطات كلها تقنيات تضع المتعلم داخل صورة أو رمز أو حكاية تمكنه من كشف الدلالة والتركيب والتقنية، إلا أن الحاجة ما زالت قائمة لوجود مزيد من الدراسات التي تساعدنا على الوصول للفهم الصحيح للعمل التربوي فبالإضافة لما دار من جدل تنظيري حول تطور التربية ومناهجها، حيث برزت دراسات ثقافية وتنشيطية التي تتمثل في بث الحياة من جديد في أهمية المعاني الرمزية للحياة الاجتماعية، وهي قضية قديمة قدم علم الاجتماع مع فيبر ودوركايم وصولا إلى الظاهراتية وعلم الإنسان، والنقد الثقافي، والتفاعلي والتكاملي والتوليدي والمعرفي، كلها تقنيات أدت إلى التغيير الابستمولوجي المعرفي القائل بأن التربية تسري في كافة الممارسات الاجتماعية سريان الدم في العروق، فلا يتسنى المدرس إدراك الواقع الممكن إلا من خلال التصنيفات الاجتماعية والنفسية والمعرفية، ولا يخفى على السوسيولوجي والتربوي أن الممارسة الفعلية تعد أداة إحداث تغيير مجتمعي، فالتربية بذلك ترادف المعاني الرمزية التي تتيح للمدرس إدراك الواقع الممكن والتعامل معه واستغلاله سواء كانت هذه المعاني صورية أم وجدانية، ولا ينبغي أن يتبادر إليه أن الواقع الذي يعيشه المتعلم قد خرج من رحم التلقين والوصاية إلى عمل التأويل الواقعي، فالتبلور في هذه الحقبة التاريخية تتغلغل فيها الثقافة والمعرفة في قطاعات شتى من المجتمع بعد أن تبوأت في مرحلة الحداثة التربوية غير منفصلة بوصفها فنا رفيعا، ثم ما لبثت أن تحولت التربية إلى تأويلات لا يمكن الحكم على قيمتها الذاتية، بل يهدف إلى تحقق التواؤم المنشود مع أسلوب الحياة الحديثة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *