حطاب السعيد
في الوقت الذي تتجه فيه العديد من الديمقراطيات الحديثة نحو ترسيخ مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، يظل المغرب حبيس مقاربة شكلية تكتفي بإعفاء المسؤولين من مناصبهم دون مساءلة حقيقية. هذا الواقع يطرح إشكالية جوهرية حول جدوى الإعفاءات إذا لم تستكمل بمسارات قضائية أو برلمانية تضمن كشف الحقيقة وإنصاف المتضررين. فالمواطن المغربي لا يطالب فقط برحيل المسؤولين، بل يريد معرفة من أخطأ، وكيف أخطأ، وما الثمن الذي سيدفعه مقابل ذلك. في غياب هذا الربط، تتحول الاستقالة إلى مسرحية سياسية تعرض على جمهور فقد الثقة في المؤسسات.
ملفات كبرى مثل “الحسيمة منارة المتوسط” وتعثر مشاريع تنموية في مناطق مهمشة، انتهت بإعفاءات وزارية دون أن تفتح تحقيقات قضائية أو تفعل آليات رقابة برلمانية جادة. وغالبا ما يعاد تدوير نفس الأسماء في مناصب أخرى، وكأن الفشل لا يعاقب بل يكافأ. هذا النمط من التدبير السياسي لا يكرس فقط ثقافة الإفلات من العقاب، بل يضعف مناعة المؤسسات ويعيد إنتاج نفس الأزمات تحت شعارات جديدة. في المقابل دول مثل كوريا الجنوبية وآيسلندا والبرازيل ورومانيا وجنوب أفريقيا قدمت نماذج صارمة في محاسبة المسؤولين، حتى في أعلى هرم السلطة. في سنة 2016 الرئيسة الكورية “بارك غيون هي” تم عزلها ومحاكمتها وسجنها بعد فضيحة فساد، في مشهد جسد استقلال القضاء وصرامة المؤسسات. وفي آيسلندا استقال رئيس الوزراء بعد تسريبات “وثائق بنما”، وتم فتح تحقيقات مالية شاملة عززت ثقة المواطنين في النظام السياسي. أما في البرازيل فقد خضعت الرئيسة ديلما روسيف لمحاكمة سياسية داخل الكونغرس بعد تورطها في مخالفات مالية، بينما قادت رومانيا سنة 2014 حملة غير مسبوقة لمحاكمة وزراء ونواب بتهم فساد عبر المديرية الوطنية لمكافحة الفساد. وفي جنوب أفريقيا استقال الرئيس جاكوب زوما سنة 2018 تحت ضغط حزبي وقضائي وتمت محاكمته لاحقا.
كل هذه النماذج تؤكد أن الاستقالة ليست نهاية المطاف بل بداية لمسار محاسبة يعيد الاعتبار للمواطن ويمنع تكرار الأخطاء. أما في السياق المغربي فإن غياب هذا الربط بين المسؤولية والمحاسبة يفرغ الديمقراطية من مضمونها، كما سبق أن عبر عن ذلك عدد من الفقهاء السياسيين والقانونيين في أوروبا: البروفيسور جان-لوك مارتان يرى أن “الاستقالة غير المرتبطة بالمحاسبة تفرغ الديمقراطية من مضمونها، وتحول المسؤولية إلى مجرد إجراء بروتوكولي”، بينما تشير الدكتورة إليزابيث نورمان إلى أن “الاستقالة دون محاسبة تكرس ثقافة الإفلات من العقاب، وتضعف ثقة المواطن في المؤسسات، وتعيد إنتاج نفس الأخطاء عبر تدوير النخب السياسية”. أما البروفيسور ديفيد هيلتون فيؤكد أن “الاستقالة تستخدم أحيانا كوسيلة لامتصاص الغضب الشعبي، لكنها لا تعني بالضرورة أن المسؤول سيحاسب أو يمنع من العودة إلى الحياة السياسية”.
ففي ظل هذا الواقع يصبح من الضروري إعادة النظر في مفهوم الاستقالة داخل السياق المغربي، وتفعيل آليات المحاسبة القضائية والرقابية بشكل يضمن عدم تكرار الأخطاء، ويعيد الاعتبار للمواطن، ويحصن المؤسسات من التآكل التدريجي في الثقة. فالديمقراطية لا تقاس بعدد الإعفاءات، بل بمدى تفعيل المساءلة بعدها، وإلا فإننا أمام مشهد سياسي يعيد إنتاج نفسه في دائرة مغلقة من الفشل غير المعاقب.